ما ملامح صفقة واشنطن وطهران في بغداد مؤخرا؟
لمصدر : الموقع الرسمي لهيئة علماء المسلمين
ليس جديدا القول بأن ولادة أي حكومة في بغداد لن تكون يسيرة من دون تحقيق معادلة التوازن الأمريكي – الإيراني فيها. لقد بات هذان الفاعلان يحققان استراتيجيتهما بهذه المعادلة. كما بات العراق هو الآخر محكوما بها أيضا. فهذا البلد تراه الولايات المتحدة مركز ثقل المنطقة، وتستطيع من خلاله التأثير في كل الاتجاهات، لذلك تخاف من سيطرة إيران عليه، لأن ذلك قد يُمكّن روسيا والصين من السيطرة على مصادر الطاقة.
أما إيران فإن ثوابتها الجيوسياسية ترى فيه مصدر الخطر التاريخي الدائم على أمنها القومي،
مضافا إلى ذلك الحدود المشتركة بطول 1458 كم، ووجود أهم مصادر الطاقة في الأحواز على حدوده، لذلك هي حريصة على أن يكون النظام الحاكم في بغداد صنيعتها. هذا الاهتمام المشترك بالعراق من قبل واشنطن وطهران قاد إلى توافق الطرفين على جعله منطقة عازلة بينهما، ومسرحا يؤديان فيه رقصة التانغو التي لا تقبل سوى راقصين اثنين.
في السادس من مايو/أيار 2020 الجاري وُلدت حكومة جديدة في بغداد، بعد ستة أشهر من عدم الاتفاق على مرشح. رئيس الحكومة معروف لدى الأمريكيين منذ أن كان مُقرّبا من المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي. تم تعيينه رئيسا لجهاز المخابرات من قبل رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي المحسوب كذلك على الامريكيين. في يناير/كانون الثاني 2020 اتهمته كتائب حزب الله العراقي، التي تدين بالولاء لإيران، بالتواطؤ مع واشنطن في الضربة الجوية التي استهدفت قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني. وقالت الحركة في بيان لها بعد تنصيبه إنه (لايزال متهما بجريمة لم يبرأ منها). ويبدو أنه التقى زعيم حزب الله اللبناني في بيروت لتبرئة نفسه من التهمة، باعتبار الحزب بات وكيلا لإيران في الملف العراقي. كما أن أطرافا في ائتلاف رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي قالوا، إن تنصيبه كان مؤامرة. أما ميليشيا عصائب أهل الحق فقالت، اضطررنا إلى (القبول على مضض بخيارات مريرة هي أشبه بأكل لحم الميتة). لكن رئيس كتلة الفتح في البرلمان ـ التي تضم كلا من ميليشيا بدر والعصائب، الذين كانوا السباقين إلى المطالبة بخروج القوات الأمريكية بعد مقتل سليماني ـ قال في بيان صحافي في التاسع من مايو الجاري (بعد أن تم تمرير حكومة الكاظمي في مجلس النواب، ندعو الولايات المتحدة ألا تعتبر تمرير الحكومة انتصارا لها وخسارة لخصومها في العراق والمنطقة). وأضاف (على واشنطن أن تُبرهن على اهتمامها بالعراق بإعطائه أولوية المساندة والدعم في هذا الظرف الحرج).
إن دراسة كل المؤشرات التي وردت في مواقف وتصريحات الأذرع الإيرانية في العراق والمنطقة، بخصوص تنصيب رئيس الوزراء الجديد تشي بأن هنالك صفقة تمت بين الفاعلين الأمريكي والإيراني. قبلها البعض مضطرا كالعصائب، واعتبرتها بدر انتصارا لواشنطن. وسعى حسن نصرالله لوضع بصماته عليها كي تمرّ، ثم باركها كما تقول صحيفة «الأوبزيرفر» البريطانية. ولم تذهب كتائب حزب الله العراقي إلى اتخاذ موقف عملي أبعد من التصريحات المناوئة. أما واشنطن وطهران فقد سارعتا لتقديم التهاني والتبريكات، وكان لقاء سفيريهما في بغداد برئيس الوزراء الجديد علامة فارقة. وهذه كلها في السياسة والعلاقات الدولية تعتبر إشارات مُكلفة، تشير إلى خطوات جدية قد حدثت في موضوع ما. أما كيف قبلت إيران برئيس الوزراء الجديد كمنهج وسلوك، وهو القريب من الولايات المتحدة، فهذا هو السؤال الكبير؟
لقد كانت الصفقات جزءا أساسيا من الصراعات والحروب في التاريخ القديم والحديث.
وفي عالمنا المعاصر هنالك قوى موجودة على المسرح السياسي الدولي والإقليمي ليس بوسعها أن تكون نقيضا للولايات المتحدة، لكن تجد أنها غير قادرة على التفاعل معها، لأنها تريد دورا إقليميا أو دوليا. قد تتناطح معها هنا وهناك، في هذه الساحة أو تلك، لكنها تسعد عندما تعقد صفقة وتتشارك معها في ملف ما، لأنها ترى في ذلك إعلانا بأنها موجودة. إيران هي قوة من هذا النوع، اليوم هي تمر بأوقات عصيبة جدا بعد مقتل مهندس استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط قاسم سليماني. ثم جاءت أزمة فيروس كورونا لتزيد الطين بلة، خاصة على الوضع الاقتصادي، الذي أصلا هو يعاني من تدهور كبير بسبب سياسة أقصى درجات الضغط، الذي تمارسه واشنطن عليها. أما في الداخل العراقي فهنالك تظاهرات مستمرة رافضة لوجودها ودور أذرعها. وهذه الاخيرة باتت تعيش وضعا صعبا بسبب التفتت، والاحترابات الداخلية، وحالة من عدم الاتفاق على كل شيء، إلى حد أن طهران أصبحت غير قادرة على توحيدهم تجاه من تريده مرشحا لرئاسة الوزراء.
على الجانب الآخر فإن الأهداف الجيوسياسية والاستراتيجية للأمريكيين تفرض بقاء قوات مسلحة في العراق، لكنها استغلت وضع طهران الراهن فاستجابت شكليا للدعوات المطالبة بسحب قواتها من العراق، فقامت بتخفيض أماكن وجود تلك القوات، وحصرها في أماكن قليلة، كي تضمن سلامتها. لكنها قالت للإيرانيين، إن لم تضبطوا ميليشياتكم فإن العراق سيقع تحت الحصار نفسه الذي تعانون منه، وسنفرض عقوبات على البنك المركزي العراقي، وسيكون اقتصاده في الحضيض، ولن نمدد الإعفاءات له باستيراد الغاز والطاقة الكهربائية منكم، ما يعني أن أكثر من 12 مليار دولار هو حجم التبادل التجاري بين البلدين لن يكون موجودا. وفي الوقت نفسه، يبدو أنها سمحت ببعض المساعدات في الجانب المالي لطهران في ظل أزمة كورونا، لذلك صرّح الرئيس الإيراني بأن هذه الأزمة قد تتيح فرصة للتقارب بين طهران وواشنطن. كما صرّح محافظ البنك المركزي الإيراني، بأن الحصول على قرض طارئ من صندوق النقد الدولي وتأمين الإفراج عن بعض أصول البنك تسير بشكل إيجابي. لكن وزير الخارجية الأمريكي كان واضحا في التحذير، عندما قال يجب أن تكون هنالك (تنازلات تؤدي إلى تشكيل الحكومة من أجل الشعب العراقي والشراكة بين الولايات المتحدة والعراق).
يبدو واضحا من الإحباط الذي يغلف تصريحات الميليشيات، والقبول على مضض بالأمر، لتمرير الحكومة الجديدة، وما يقابله من موافقة أمريكية سريعة على تمديد الإعفاءات من العقوبات على واردات الغاز والكهرباء الإيراني إلى العراق، لمدة مئة وعشرين يوما وليس ثلاثين يوما، كما حصل مع الحكومة السابقة. وكذلك استعداد صندوق النقد الدولي لتقديم قرضا للعراق. كلها تؤكد على أن صفقة مرور رئيس الوزراء الجديد وتمرير حكومته قد تمت، وأن طهران لم تجد خيارا آخر في ظل الظرف الراهن، الذي تمر به هي وميليشياتها في العراق. لكن طبيعة الصراع بين الطرفين في الساحة العراقية لن يتغير، وسيبقى مصير العراق مرتبطا ارتباطا جذريا بالتوازن بين واشنطن وطهران، الذي هو أصلا توازن غير مستقر.