أخبار الرافدين
علي شندب

لبنان والترسيم الحزبلّاهي

بخلاف إعلان زعيم حزب الله انتظاره التوقيع على “اتفاق الترسيم” في الناقورة كي يصبح نافذاً، لم ينتظر الرئيس الأمريكي جو بايدن توقيع الاتفاق ليُطلق مفرقعاته النارية، لأن مراسم التوقيع مسألة شكلية.
ولهذا سارع بايدن المحتاج لأصغر إنجاز دبلوماسي، في بيانه المسهب الى وضع بصمته على هذا الاتفاق علّه يرفع شعبيته في الانتخابات التشريعية المرتقبة، فوصفه بـ “الاختراق التاريخي”، سيّما وأنّ سلفه دونالد ترامب لم يترك له شيئا مهماً يفعله بعد “اتفاقيات ابراهام” المعلومة.
إختراق تاريخي، جعل يائير لابيد رئيس وزراء الكيان وحكومته يعلنان موافقتهم على الاتفاق الذي وصفه لابيد بـ “الاتفاق التاريخي”، خصوصاً وأنه يضمن أمن “إسرائيل” أولاً، ويحقق عوائد مالية ليس من حقل كاريش المتنازع عليه سابقاً فحسب وإنما من حقل قانا اللبناني. عوائد قدرت بنحو 17 بالمائة على شكل رسوم ستدفعها شركة توتال للجانب “الإسرائيلي” وفق عقد منفصل بينهما.
اختراق تاريخي، فاتفاق تاريخي، قابلهما توصيف مناقض هو “إستسلام تاريخي” لصاحبه بنيامين نتنياهو الذي سبق وتعهد بتمزيق الإتفاق بعد وصوله الى السلطة، لكنه بعد بيان بايدن الاختراقي بلع تهديده وسحبه من التداول. الأمر اللافت “إسرائيلياً” هو إجماع وزير الدفاع بيني غانتس وقادة المؤسّسة الأمنية “الإسرائيلية” على أهمية الاتفاق لأنه فضلاً عن العوائد الغازية والمالية الوفيرة، يحقق الأمن والاستقرار المستدام لاسرائيل على حدود الشمالية.
في لبنان غابت كلمة التاريخي عن ألسنة المسؤولين كافة، لصالح عبارة أن “الإتفاق يلبي كافة المطالب اللبنانية”. إنها المطالب التي لأجل ضمان تحقيقها أطلق زعيم حزب الله مسيّراته غير المسلحة فوق كاريش، متبنياً معادلة “قانا مقابل كاريش” التي تعود ملكيتها الفكرية لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل “غير المختلف إيديولجيا مع اسرائيل”. إنها المعادلة التي تفصح عن تفاهم عميق بين نصر الله وباسيل، توافق متناسل من توافق “ثنائي الترسيم” أي “الثنائي الشيعي” منذ ما قبل “إتفاقية الإطار” التي سبق وأعلنها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، والذي بدا يومها يعلن الإتفاق باسم حزب الله، أكثر مما هو باسمه.
إذن مصطلح “التاريخي” الاحتفائي أو الغاضب، وسم “إتفاق الترسيم” الذي أودعته الحكومة “الإسرائيلية” في الكنيست ليعرض على مدى أسبوعين دون التصويت عليه، وهو ما دفع حسن نصر الله للركون الى الحذر والتحوّط مخافة نكوص “إسرائيل” بالاتفاق لأيّ أمر كان. لكن رغم هذا التحوّط استظهر نصر الله وبابتسامة عريضة بهجته وهدوءه وفرحه باتفاق الترسيم، وكأنه انتصار كبير يرجح أن يضعه لاحقاً في خانة ملهم “الإنتصارات الإلهية” قاسم سليماني.
بخلاف الموقف غير الموّحد داخل الكيان الإسرائيلي، فقد اتسم الواقع الرسمي اللبناني رغم تناقضاته القاتلة بوحدة موقف حيال الاتفاق. كيف لا، وهو محصّن ببركة من يمتلك حصرياً “مختبر فحص الدمّ” لتصنيف المواقف والناس وفرزها عمالةً ووطنية. فما يبتهج به نصر الله اليوم، هو ما سبق أن خُوّن لأجله فؤاد السنيورة وحكومته عندما أقرّوا الخط 23 الذي اعتبر يومها تفريطاً بالحقوق اللبنانية. يومها لم يدر بخلد السنيورة أن “التفريط” هو حقّ حصري برافعي لواء المقاومة التي بحسب نصر الله “تريد أكل العنب”، أما “قتل الناطور” التي كانت في صلب وأساس عقيدة حزب الله فقد غابت نهائياً عن مطالعاته الترسيمية، تماماً كما غاب معها إعلان “سنصلّي في القدس”.
توازياً مع تعثّر الاتفاق النووي مع إيران، فقد تردّد أن اتفاق الترسيم اللبناني الإسرائيلي كان نتيجة مفاوضات أمريكية إيرانية في إحدى الدول الخليجية ويرجّح أنها قطر التي تعتبر طرفاً غير معلن في هذا الاتفاق سيما وأنها تمتلك أكبر أسطول لناقلات الغاز المسال.
بدون شك ثمّة تحولات هائلة في موقف حزب الله، ونظرته الى الصراع مع العدو الإسرائيلي المتناسلة من عقيدة التخادم والصبر الإستراتيجي الإيرانية. فبدون موافقة حزب الله لم يكن ممكناً لهذا الاتفاق أن يبصر النور. انه الاتفاق الذي يجزم قادة “إسرائيل” العسكريين والأمنيين أنه يوفر لها الأمن ويضمن الاستقرار على ضفتي الحدود المنضبطة منذ تموز 2006 والتي ستنشغل اليوم باستخراج النفط والغاز.
وبدون شك أيضاً، فحزب الله ممثلّاً بالدولة اللبنانية “التي يقف خلفها أو أمامها حسب مقتضيات المصلحة” هو الطرف المقابل لإسرائيل في إتفاق الترسيم وأنابيب وناقلات النفط والغاز المنطلقة من ضفتي الحدود. انه الغاز الذي يعلم نصر الله أنه لأجل شق مسالك وممرّات أنابيبه براً وبحراً أزيلت دول بأمها وأبيها من على الخريطة كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن وقبلهما العراق وأفغانستان واليوم أوكرانيا. ولهذا كانت إنحناءة حزب الله بالموافقة على الإتفاق والتضحية بالخط 29 الذي تأسّست جمعية للدفاع عنه برئاسة عصام خليفة المدجّج بترسانة من الوثائق التي تثبت أنّ الخط 29 في رأس الناقورة هو خط الحدود، وأن التنازل عن هذا الخط بمثابة الخيانة الوطنية التي تستوجب سوق مرتكبيها وخصوصاً الرؤساء الثلاثة الى المحاكمة.
بغض النظر عن الضجيج المُثار والذي سيُثار حول الاتفاق، يجدر القول إن الرابح الأكبر منه هو الولايات المتحدة التي تفتش وبالميكروسكوبات الدقيقة عن مطلق نقطة غاز على ظهر الكوكب للافتكاك من ابتزاز بوتين وأذرعه الغازية والطاقوية. أما الرابح الثاني فهو بدون شك “إسرائيل” التي ضمنت أمناً واستقراراً مستداماً وعوائد مالية ضخمة. أما ثالث الرابحين فهو حزب الله الذي يمكن القول إنه ورغم تصنيفه ارهابيا فقد استحصل على مباركة من نظيرته الفلسطينية حركة حماس، توازياً مع حصوله على بطاقة تأمين أمريكية اوروبية تبقيه حيّاً أقله لخمسين سنة قادمة، ما يعني تغييراً جوهرياً في النسق اللبناني ربمّا يستولد بالترسيم “لبنان الحزبلّاهي”، إلّا إذا..

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى