أخبار الرافدين
كرم نعمة

حان الوقت لكتابة مرثية جونسون

قد أكون أقل المتحمسين لكتابة مرثية بوريس، لكن هناك العشرات غيري ممن يمتلكون مهارات الكتابة العميقة يشحذون أقلامهم لكتابة هذه المرثية المتهكمة لرئيس الوزراء البريطاني.
كلهم زملاء بوريس من الصحافيين “هو الوحيد من بين رؤساء الوزراء في أدبيات الخطاب الإنجليزي من يسمى باسمه الأول”، فهو صحافي قبل أن يكون عمدة لندن وزعيم حزب المحافظين لاحقا ورئيس الوزراء.
أنا كتبت مرثيتي عن بوريس مبكرًا عندما كان مراسلًا صحافيًا وشارك حشد المراسلين في الأسابيع الأولى من احتلال العراق عام 2003، أول شي عمله التوجه الى منزل نائب رئيس الوزراء العراقي الراحل طارق عزيز في بغداد واستحوذ على علبة السيجار الجلدية الخاصة بعزيز، الأمر الذي دفع محامي عزيز آنذاك الى القول إنه كان يأمل أن يأخذ جونسون المجلدات الثمينة من كتب “قصة الحضارة” أو سيرة جورج واشنطن بدلا من علبة السيجار الجلدية.
الشرطة البريطانية استدعت جونسون بعدها واستعادت منه علبة السيجار العراقية، لأنه ليس له الحق في الاستحواذ عليها.
تلك قصة من قبيل المزاح السياسي الثقيل، فبينما من سرق منزل طارق عزيز برمته من لصوص الدولة مازال يمكث فيه ويقدم نفسه سياسيا يقود “تيار الحكمة”! تم استعادة علبة السيجار من بوريس الصحافي السارق. هكذا هم لصوص الدولة في العراق يزعمون بتسويق الحكمة.
مهما يكم من أمر، المرثية جاهزة اليوم لأن بوريس جونسون أغرق المملكة المتحدة في البحر، منذ أن قادة حافلة بريكست في المدن البريطانية تاركًا الحقيقة في بيته “والد جونسون صوت ضد بريكست”.
لم يبال كثيرًا بعدها وهو يعلن سعادته بالخروج من الاتحاد، مع أنه لا يمكن لبريطانيا أن تغادر أوروبيتها لتصبح أمريكية.
أصطحب بوريس شلته وذهب ليلعب الكريكت في وقت كانت البلاد تدخل في مأزق بريكست بصفقة خاسرة.
انتظر الصحافيون سنينًا قبل أن يحين موعد السؤال الأسبوع الماضي، وهم يطلقونه بوجهه “هل ستستقيل؟” فرد عليهم بوريس بسؤال استنكاري هل أنتم مجانين؟
في حقيقة الأمر لا يوجد سياسي بريطاني معاصر مجنون مثل بوريس جونسون، إذا استثنينا عن قصد نايجل فراج. حتى راشيل شقيقة بوريس تصفه كذلك، وتقول إن طموحه منذ أن كان صبيا يريد أن يصل الى حكم العالم!
ومقابل التصعيد السياسي والإعلامي لدفع بوريس على تقديم استقالته، يصر رئيس الوزراء البريطاني على أن “القاعدة الذهبية” هي “التركيز على ما نقوم به”، بعدما كشف أنه يخطط لأن يظل في المنصب حتى عام 2030 وأكثر.
واعترف بوريس المثقل بالفضائح أنه لم يكن “لديه الوقت” للتفكير في ما هو أكثر ما يندم عليه خلال فترة رئاسته للوزراء حتى الآن، لكنه زعم أن انجازات الحكومة “رائعة”.
بينما كل المؤشرات تقول إن سفينة بريطانيا تغرق أخيرًا في البحر ولا يوجد مكان سياسي آمن يدل جونسون البريطانيين علية. خصوصا بعد أن خسر حزبه الأسبوع الماضي مقعدين تكميليين لحساب حزبي الديمقراطيين الاحرار والعمال، أحدهما في توفيرتون الدائرة الانتخابية التي كان المحافظون يسيطرون عليها بشكل شبه مستمر منذ عام 1923.
وفي حين أن يأس جونسون نفسه ليصبح زعيما للمحافظين كان دائمًا سرًا مكشوفًا بوجود ديفيد كاميرون وتيريزا ماي، فإن صعوده في النهاية أعتمد على يأس زملائه المحافظين أيضا. بحلول عام 2019، بعد ما يقرب من عقد من الزمان في السلطة مع القليل من الإيجابية لإظهار ذلك، كانت هناك حاجة ملحة لرسم مسار جديد.
نفذت بعدها الأفكار، وتحول المحافظون إلى أشبه ببائع متجول لأوهام الشعور بالسعادة. بينما كان منسوب الكأبة الاقتصادية والمعيشية يرتفع بمرور الوقت عند البريطانيين.
عرض جونسون على المحافظين مهربًا من أوروبا. وما كان يفتقر إليه من أفكار سياسية، عوضه بتفاؤله اللامحدود وروح الدعابة. بالطريقة البريطانية نفسها عندما تحل القطع المتهرئة محل السياسة المسؤولة. كانت تلك وسيلة بوريس لرفع الروح المعنوية حيال فشله في رفع الأجور.
فشل جونسون مرة أخرى بكسب الأثرياء في انتخابات تكميلية، بينما تحوم بريطانيا على شفا الركود الاقتصادي، وجماهير حزب المحافظين التي اتحدت في السابق حول جونسون باتت ترفضه اليوم. أما الرافضون له بالأساس من فقراء بريطانيا فازدادت أيامهم التي يقضونها بالوقوف أمام بنوك الطعام لسد جوع أسرهم.
جونسون كان ثالث زعيم لحزب المحافظين بعد 12 عامًا في المنصب، بعد ديفيد كاميرون وتيريزا ماي، ممن مهدوا الطريق لمشاكل بريطانيا، فلم ترتفع على سبيل المثال الأجور منذ عام 2010 بينما يزداد التضخم مقابل ذلك. والشعب بدأ يعبر عن تذمره من ارتفاع أسعار الغذاء ودفع فواتير الطاقة بطرق لم تعهدها بريطانيا من قبل. وكل ذلك مؤشر لسقوط مدو للمحافظين في الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها بحلول عام 2025. فالمحافظون في مأزق سواء بقيادة جونسون أم بغيره.
ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لن ينمو الاقتصاد البريطاني على الإطلاق العام المقبل، وهي توقعات قاتمة تشترك فيها الاقتصادات الكبرى مع روسيا.
ينبغي أن يكون ذلك مقلقا للمحافظين، الذين يظهر سجلهم الاقتصادي السيئ في كل مكان، من ارتفاع مستويات الفقر إلى تردي الخدمات الطبية التي تعاني من نقص مزمن في التمويل.
وسط الخيبة المعيشية المستمرة منذ انتشار وباء كورونا وصدمة ما بعد الوباء وحطام ذلك الاضطراب المزدوج، الذي تفاقم بسبب عدم كفاءة جونسون، فقد زعيم حزب المحافظين سحره، تهكمه ومزاحه، وسط أزمة غلاء المعيشة المتصاعدة، وبات يوصف بالفاشل، بعد أن سئم البريطانيون من الوعود الكاذبة والخداع الوقح، وانقلبوا جميعا ضده، قبل ان يحول السياسة البريطانية إلى مجرد أنقاض.
قد يستحوذ على عرش جونسون، وزير المالية ريشي سوناك أو وزيرة الخارجية ليز تروس أو وزير الخارجية السابق جيريمي هانت، لكن ليس من المرجح أن يمتلك أيا منهم مسار الإنقاذ الجوهري، لإيقاف غرق السفينة البريطانية، كما وصفها في ستينات القرن الماضي، الكوميدي الإنجليزي اللاذع بيتر كوك.
مرثية جونسون تكتب اليوم بأكثر من قلم، قبل بدأ محاولات إخراج السفينة البريطانية من الغرق. والأخطر من ذلك النموذج الاقتصادي الفاشل الذي روج له المحافظون الذي أدى إلى الانزلاق، وليس مستبعدا أن يقود بريطانيا إلى الفوضى.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى