أخبار الرافدين
2د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد (7)

مع سقوط الاتحاد السوفيتي “القطب المقابل” وشعور الولايات المتحدة الأمريكية بتخلصها نهائيًا من تلك “الثنائية” التي أرقتها وأرهقتها كثيرًا أعلنت واشنطن على لسان رئيسها جورج بوش الأب أن عصر السلام الدولي قد بدأ الآن، غير أن المفارقة الكبيرة التي حملها هذا الإعلان أفصحت عن نفسها في قيام الولايات المتحدة الأمريكية في شهر كانون الثاني عام 1991 بتدشين عصر سلامها “المزعوم” بحرب عالمية ثالثة تولت فيها قيادة 33 دولة بينها عدد من الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا ضمن حلف دولي استخدم جيوش 28 دولة منها للعدوان على العراق
البلد الصغير -في قياسات الحجوم- الذي ينتمي وفقًا لتسمياتهم إلى بلدان العالم الثالث بحجة إخراج قطعات من جيشه من الكويت التي كانت فعليًا قد بدأت بالخروج عائدة إلى العراق بعد وعود روسية بالخروج الآمن، وقبلها كانت الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أخضعت بشكل كامل منظمة الأمم المتحدة لإرادتها، قد استخدمت هذه المنظمة بشكل خاص مجلس الأمن فيها بإصدار قرارات غير مسبوقة لفرض الحصار الشامل على العراق ومنع شعبه حتى من استيراد الدواء والغذاء لما يقرب من 13 عامًا (1990-2003) ما أدى إلى وفاة أكثر من مليون مواطن عراقي بينهم أكثر من نصف مليون طفل بسبب الحاجة إلى الغذاء والدواء.. فأي عصر سلام دولي ذلك الذي أدعت واشنطن بدايته؟
السؤال لا ينحصر في القضايا التي شكلت وتشكل بؤر توتر ونزاع مسلح بين أكثر من طرف فقط التي أثيرت بشكل علني وجدي بعد ذلك الإعلان الأمريكي بل يشمل كل ملفات القضايا المفتوحة والمعلقة على الساحة الدولية، في مقدمتها ملف الصراع العربي الإسرائيلي، التي أدعت الولايات المتحدة الأمريكية حرصها الشديد على إيجاد الحلول النهائية لها في محاولة منها لإقناع دول وشعوب العالم بجدارة سياساتها في قيادة العالم وأحقيتها بالتفرد في زعامة النظام الدولي كونها تمتلك كل مقومات القوة المؤهلة والوحيدة لتحقيق عالم السلام والحرية والديمقراطية بعد أن سقطت وإلى الأبد الحواجز وانتهت المعوقات بانهيار الاتحاد السوفيتي، المتهم أمريكيًا لأكثر من نصف قرن بالتشجيع والمشاركة في إثارة النزاعات والتوترات في أكثر من ساحة إقليمية ودولية بأنه السبب المباشر في ضياع جهود كبيرة بذلت لتحقيق عالم الديمقراطية والحرية.
وإزاء تعاظم مطالب الرأي العام الدولي بإجابة واقعية عن ذلك السؤال “حقيقة عصر السلام الدولي”، تصدت أكثر من جهة ومؤسسة أمريكية لصناعة رد براغماتي يصرف أذهان السائلين عن هدف سؤالهم أو يجرده من معانيه ومن بين المؤسسات التي تولت هذا الأمر “معهد بحوث السياسة الخارجية الأمريكية” وهو مركز أبحاث مقرب جدًا من مراكز صنع القرار الأمريكي ويعتمد عليه في التوجيه والتصويب والإعلان عن السياسات الخارجية الأمريكية، الذي أفصح في تقرير له صدر عام 1997 عن وجهة نظر الإدارة الأمريكية، منطلقًا من حكم مجرد يقول “من الصعب إطلاق وصف عصر السلام على فترة ما بعد الحرب الباردة”. لماذا؟، يجيب التقرير بالقول: إن الصراع على المصالح ومناطق النفوذ الذي كان سائدًا خلال سنوات الحرب الباردة قد حلت محله اليوم صراعات إقليمية قبلية أو أهلية أو دينية لا يمكن التهوين من خطورتها بما جعل الأمريكيين “وبشكل خاص المسؤولين عن السياسة الخارجية” يشعرون بالصدمة لأنهم آمنوا بوجهة نظر تقوم على ضرورة استعمال القوة الأمريكية سياسية أو اقتصادية أو عسكرية في التعامل مع العديد من بقايا القضايا والملفات المعلقة من عصر الحرب الباردة كون الولايات المتحدة الأميركية معنية بشكل مباشر بتحقيق شعارات حقوق الإنسان والتعاون الاقتصادي والحد من التسلح وإقامة الشرعية الدولية واحترام القانون الدولي تبعًا لمسؤولياتها الأخلاقية والدولية غير أن ممارسة هذه السياسة قد واجهتها عقبات وضعتها القوى التي لا ترغب بالسلام لذلك فأن الأمر يحتاج إلى وقت أطول.
ومن منطلق “البراغماتية” أو “الذرائعية” هذه التي تستند إليها السياسة الأمريكية في تسويغ أفعالها غير الشرعية راح المسؤولون الأمريكيون يفسرون أسباب الفشل هكذا “لقد تغيرت الظروف اللعبة السياسية نفسها قد تغيرت. العديد من الدول امتلكت أسلحة متطورة وخطيرة نتيجة تهالك معسكر الدول الاشتراكية المنهار وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق على بيع تلك الأسلحة لها الأمر الذي جعلها تهدد بشكل مباشر حلم السلام الذي نريده للعالم وجعلنا نستجمع قواتنا للرد عليها”.
إن هذا الطرح رغم ظاهره الملمع، لا يمكن أن يدين أي طرف بقدر إدانته الولايات المتحدة الأمريكية التي تبنته وراحت تحاول تسويغ تصرفاتها العدوانية وغير الشرعية بموجبه ويلقي على كاهل سياساتها أسباب الفشل، إذ كيف يمكن فهم التناقض الواضح في هذه القضية بين ادعاء الولايات المتحدة الأمريكية بأنها الدولة الأعظم والأقوى في العالم في الوقت الذي تعزو فشل سياساتها إلى الجهل؟
جهل أن الظروف والسياسات والتوجهات قد تغيرت وادعاؤها أن حرص الكثير من الدول عل أمنها الوطني وبناء جيوشها وتسليحها بما يمنحها القدرة على الدفاع عن نفسها ضد الأخطار الحقيقية التي تهددها، هو عمل جديد مخل بالسلام الدولي ويسهم بشكل كبير ومؤثر في إعاقة ترسيخ عصر السلام الدولي. والحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى