لن تبيض سواد وجوهكم
أثار الاهتمام البالغ من حكومة الكاظمي وميليشياتها بفاجعة العراقيين في مصيف برخ بقضاء زاخو، وتشييع جثامين الضحايا بجنازة رسمية، تعلو باقاتُ الورود نعوشهم، تساؤلات مشروعة لدى العراقيين، وكثير من المراقبين؛ فهل باتت حياة العراقيين بهذه الدرجة من الأهمية لدى هذا النظام، وهل يمثل هذا التعامل الراقي في الظاهر، سياقًا جديدًا أو قديمًا غفلت عنه أعين العراقيين والمراقبين من قبل؟!
من نافلة القول أن الدماء البريئة لن تبيّض وجوهًا مسودة، وأن الأرواح الطاهرة التي قتلت بغير ذنب ولا جريرة، لن تمنح القتلة والسفاحين أوسمة الشرف والوطنية، وأن مأساة عروس فقدت عريسها من بين يديها في لحظة أنس وبهجة، كانت تظنها، قبل أن يأتيها حاصد المسرات، لن تكون بطاقة دخول لهم لديوان الرجولة والشهامة.
ليت العراقيين يحصلون على كرامة الموت عند ساعة موتهم، إذ لم تشفع لهم أعمارهم بحياة إنسانية كريمة، في ظل حكم اللصوص والسفاحين، وليت النفوس وهي تزهق مودعة أحبابها، تحظى بابتسامة وداع حرمت منها، وليس بنحيب يهز ما تبقى من الضلوع، وليتها لم تحلق في عالم الملكوت وسط ضجيج وصراخ قاتلين، وليتها لم تسمع ذياك العويل، فيكون الألم ألمين، والحسرة مضاعفة، وليتها كانت قادرة على أن تبصق في وجوه المتاجرين برحيلهم؛ ألا تفًا على زمر البغاة، ألا سحقًا لفسدة جبناء، إلا على مستضعف لا حول له ولا قوة.
هل يظن الكاظمي وزبانيته وميليشياته، أن العراقيين غائبون عن الوعي، فنسوا ماذا حل بهم على أيديهم، من قتل وتشريد وظلم واعتقال وتجويع؟ هل يظن أنهم يجهلون حال الأبرياء في السجون الذين يُقتلون بالتجويع والمرض، ومن يسلم من ذلك يموت قهرًا؟
هل مر أحد من ساسة الحكم على أمهات المعتقلين الأبرياء، وهن يفترشن الأرض، ويلتحفن السماء، في أبواب السجون، لعلهن يحظين برؤية أبنائهن المسجونين ظلمًا وعدوانًا؟
هل تحركت إنسانيتهم يومًا أو ساعةً، وهم يشاهدون منظرهن وحالهن الذي يدمي القلب؟ أين إنسانيتهم التي تفجرت فجأة كذبًا وزورًا في فاجعة زاخو- وليتهم صدقوا بها- ولكن أنى لهم؟
أين إنسانيتهم الكاذبة من ملايين النازحين في مخيمات التهجير القسري، منذ سنين عددًا، هل ترضى ضمائرهم بحال كرام قوم أصبحوا لا يملكون ثمن رغيف خبز لأطفالهم؟ أليسوا عراقيين ويستحقون حياة كريمة في وطنهم؟
وهل قتل الأبرياء في زاخو جريمة، وقتلكم للأبرياء في ثورة تشرين ليست كذلك؟ هل نسيتم ما فعلتموه بشباب العراق الباحث عن حياة حرة كريمة؟ وهل غابت عنكم مشاهد جرحاهم على أرصفة شوارع ألمانيا بعد أن طردتهم المستشفيات هناك بسبب تخليكم عنهم؟
أيها الكاظمي ويا كل أزلام النظام البائس، إن جثثًا لعراقيين أبرياء تعفنت تحت ركام بيوتهم في الموصل، تنتظر من ينتشلها، ويكرمها بدفنها، لا تطلب تشييعًا رسميًا، ولا باقات ورد تظنون أنها تزين سوء أفعالكم، ولا ترتجي إنصافًا من قاتلها، فذاك أمر محسوم تكفل الله به، ولكن تظاهروا مرة أخرى بإنسانيتكم، ولستم بفاعلين، فليس في ذلك مصلحة ترجونها أو تستحقونها.
إن المتابع لما فعلته حكومة الكاظمي وميليشياتها، إثر الفاجعة المروعة في مصيف قرية برخ، وتلك التصريحات عالية الفولتية، ضد القصف الذي يصرون على أنه تركي، على الرغم من النفي القاطع من تركيا، يشير إلى أن حكومة الكاظمي وميليشياتها لديهم أدلة قاطعة على ما يزعمون، فلماذا إذن لم يوافقوا لحد الآن على الطلب التركي للتعاون في كشف الحقيقة؟ هل يخشون انكشافها؟ هل يعقل أن تكون الجريمة من تدبيرهم وتخطيطهم، مع حزب العمال الإرهابي، لتحقيق مصالح سياسية، وصرف الشعب عن حقيقة ما يجري من فضيحة التسريبات، والمأزق الخطير في عمليتهم السياسية، والوضع المتفجر بين الصدر وخصمه اللدود نوري المالكي؟
هل يعقل أن المالكي وميليشياته، ومِن ورائهم إيران، يمكن أن يرتكبوا جريمة، بهذا الحجم، لغايات سياسية؟ نعم ممكن، ولا شك ولا ريب، ولنا في تفجير المرقدين بسامراء، والأيام الداميات في بغداد والمحافظات، دليل وعبرة، فلا حرمة لدم عراقي لديهم، ولا مكانة لمقدس في نفوسهم المريضة الحاقدة، ولا دين يردعهم، وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون.
لقد شهدت منطقة كردستان العراق طيلة السنوات الماضية حوادث قصف متكررة من قبل إيران وتركيا، ونذكر هنا سيدكان، وجومان، وجبل سورين في السليمانية الذي توغلت فيه إيران قبل ثلاث سنوات، ونذكر القصف الإيراني بالصواريخ الباليستية على كويسنجق وأربيل، وهي هجومات اعترفت بها إيران كلها، وأما العمليات العسكرية التركية وآخرها “مخلب-قفل”، فهي مستمرة بلا إنقطاع، ناهيك عن بلد تشكل حكومته من قبل سفارات الدول الخارجية، بل يقود أحزابه الحاكمة جواسيس يقرون بذلك، فما الذي جعل هذه الحكومة وميليشياتها يصحون فجأة على السيادة المنتهكة، وكأن العراق في ظلهم سيد مهاب الجانب، ترتعد فصائل من يفكر بالاقتراب منه، فصرنا أمام بازار تنافسي في تصريحات عنترية، لا تسمن ولا تغني من جوع.
كان أغرب تنديد بالقصف في زاخو، ذلك الذي صدر عن قيس الخزعلي المصنف إرهابيًا، زعيم ميليشيا العصائب المصنفة إرهابيًا كذلك، فقد تكررت فيه كلمات “السيادة العراقية”، وهو القائل بأنه يفخر بوصفهم ذيول إيران في العراق، وتكررت في تنديده أيضا كلمات “أرواح المدنيين”، وهو الذي قتل ألفًا وخمسمائة مدني بريء، انتقامًا لمقتل أخيه عام 2006، باعتراف مقتدى الصدر يوم كان قيس منضويًا تحت لوائه في جيش المهدي سيئ الصيت، وذكر “اسم العراق العظيم”، ولم يصل العراق في تأريخه إلى درك الحضيض مثل ما حصل في عهدهم المظلم هذا، فعن أي عظمة يتحدث مهرب مصفى بيجي إلى إيران؟
إن هذا النظام الذي انتهت كل مقومات بقائه إلّا من إصرار أمريكي وغربي على بقائه، ولا حياة له إلّا على مصائب العراقيين، يوجدها ليقتات منها، سيبقى كابوسًا يقض مضاجع العراقيين، ويستنزف أعمارهم وخيراتهم، حتى يأخذ الشعب قراره بالتخلص منه، وطي صفحته المظلمة، وما ذلك على الله بعزيز.