أخبار الرافدين
كرم نعمة

علبة سردين سياسية فاسدة في العراق

تدفع مجموعة من الأصوات، وبنيات وطنية يتعذر التشكيك بها، للتغيير السياسي في العراق، من دون الذهاب للمعادلة الصفرية. وتسوغ في ذلك بنفس دعوات الأحزاب الحاكمة، التي تبدأ بصعوبة الانقلاب العسكري، واستحالة التدخل الخارجي، ولم يبق أمام العراقيين غير ثورة تشرين، التي تعتبرها فشلت في الاتفاق على قيادة توصلها إلى التغيير.
وتجتهد تلك الأصوات، للبناء على نفس تلك الذرائع، وترى في النهاية أن التغيير يجب أن يكون من داخل العملية السياسية التي بناها الاحتلال الأمريكي عام 2003، متذرعة بأن العراق كبلد وشعب ليس بمقدوره تحمل أثمان المعادلة الصفرية، فطريقة “السحل التاريخية” لا تفضي إلا لدورة دماء تاريخية ستعيد السحل مرة أخرى!
حسنا، سنتفق على صعوبة التغيير وفق متراجحة التوازنات الدولية القائمة حاليا، لكن الوضع القائم بابتذال سياسي منذ إعلان مجلس الحكم المنحل، أشبه بعلبة سردين فاسدة غير صالحة للاستهلاك السياسي وإن أضيف لها كل توابل الديمقراطية! بدأ بالدستور الذي لا يمثل إلا من كتبه، بما فيهم نوح فيلدمان! وحتى الفكرة التقسيمية التي همشت وطنية العراقيين لحساب طائفيتهم. فهل الأجدى رميها في مكب نفايات التاريخ، أم إعادة تقديم الفاسد بطريقة الصالح للاستهلاك السياسي؟
بما أن العراقيين برمتهم توصلوا إلى نتيجة أن الطبقة الحاكمة فاقدة الصلاحية السياسية والوطنية، فلماذا يراد منهم القبول بمنهج الباب الدوار السياسي للبقاء في نفس المنطقة من دون المرور الى التغيير السياسي الحقيقي.
الرافضون لتهديم معبد العملية السياسية، باعتباره تغييرا وجوديا، يدركون أن التفاهات السياسية القائمة منذ عام 2003 تنتج هوامشها للاستمرار في اللعبة نفسها وأن تغيرت الوجوه، وسترحب بشدة بعدم الذهاب الى المعادلة الصفرية في استعادة العراق المخطوف.
ستكون هناك مجموعة من التسميات متعلقة بالتغيير، لكن لا تغيير سياسيا فيها بالأساس، إلا إذا افترضنا أن الخواء السياسي الذي يمثله نوري المالكي أو مقتدى الصدر أو محمد الحلبوسي… لديهم الاستعداد لقبول فكرة التغيير الوطني.
مثلما تتذرع هذه الأصوات، باستحالة التغيير وفق الانقلاب العسكري أو التدخل الخارجي، سيكون من البساطة بمكان أن تجد أن مفهوم استحالة التغيير قائم أيضا عند التعويل على فكرة الدستور، الذي كتب في زمن شاذ من تاريخ البلاد لا يمت بصلة للعراق.
كما أن منطق الانتخابات وفق موازين العملية السياسية القائمة ستنتج لنا صورا مستنسخة مما أنتجته الانتخابات الأخيرة وفق معادلة المستقلين، حيث أكتشف العراقيون لا مستقلا فيهم غير تسميتهم! وهؤلاء اليوم شركاء حقيقيون للصوص الدولة للاستمرار في نفس المعادلة التي لا تفضي إلى نهاية صحيحة.
نحن إذا أمام علبة فاسدة وغير صالحة للاستهلاك السياسي الوطني، وإعادة طهيها وتقديمها بنكهة مختلفة لاتحد من ضررها على مستقبل البلاد ولا تعيد العراق المخطوف. فلماذا ندفع باتجاه تقديم نفس العلبة فاقدة الصلاحية بوصفها نوعا من الحل التدريجي الأقل ضررا على العراق من ضرر الوصول إلى معادلة التغيير الجذرية.
لا أحد يتوقع ثمن التغيير الحقيقي للعملية السياسية القائمة منذ عام 2003 تحت وطأة اللادولة المسلحة، مثلما لا أحد يشك بضرر استمرار نفس العملية بطرق مختلفة. لكن تغيرات صناعة مستقبل البلدان لا يمكن أن تكون بلا ثمن، وما دفعه العراق من دماء وكرامة منذ احتلاله الى اليوم، لا يقل عن الثمن الذي سيدفعه باستمرار نفس الرثاثة السياسية المبتذلة التي تديرها الأحزاب الطائفية.
فلماذا يراد للعراقيين أن يصدقوا أن مقتدى الصدر على سبيل المثال، يمكن أن يتغير، وأن نوري المالكي بإمكانه أن يكون جزء من الحل، وأن مرجعية السيستاني ستعترف في يوم ما بمسؤوليتها عن تقسيم العراقيين وتحملها الدماء التي أهدرت على الهوية تحت لافتتها. على الجانب الآخر لا يمكن للحزب الإسلامي أن يبرئ تاريخيه من الشراكة الطائفية وانهيار مفهوم الدولة، التي جعلت العراقي يسأل نفسه “هل حقا أنا مختلف عن جاري العراقي”.
لا زلت أتذكر ما كتبه ماثيو باريس في صحيفة التايمز البريطانية بعد احتلال العراق، وهو يعبر عن جهل الغرب السياسي والإعلامي بالعالم العربي، في قراءة قدمت فهما حقيقيا ونادرا لكاتب بريطاني عما جرى في بلاد النهرين، بقوله “أننا كبريطانيين وأمريكيين لا نفهم لماذا نذهب لاحتلال العراق، وبعد كل تلك السنين، لنعترف بأننا أضعنا الطريق إلى الشرق الأوسط، في سياستنا الخارجية والعسكرية”.
وإذا كانت هذه القراءة الموضوعية من كاتب أسهمت بلاده في إيصال العراق إلى دولة فاسدة وفاشلة تمزقها النزاعات على المصالح الأنانية.
فأي أدلة يقدمها لنا تاريخ عشرين سنة من القوى والأحزاب الطائفية التي أدارت حكومات افتراضية في المنطقة الخضراء، غير أننا سنواصل المسير بنفس طريق التخبط، بقبول الاعتماد عليها وعلى العملية السياسية التي أنتجتها، على أمل تغيير مستقبلنا.
قبل أيام استمعنا إلى آخر أهم الرسائل الأمريكية، نقلتها باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، لمن التقت بهم من أتباع العملية السياسية في المنطقة الخضراء وأربيل، تتخلص بأن الإدارة الأمريكية لن تسمح لأحد بـ “تهديم العملية السياسية التي بنتها، مهما كانت النتائج”.
كان الرئيس جو بايدن، على درجة من الذكاء هذه المرة، وهو يختار موظفة من الدرجة الثانية لممارسة دور الاذلال الذي سبق وأن انتهجه جورج بوش مع أعضاء مجلس الحكم المنحل حتى آخر رئيس حكومة في المنطقة الخضراء.
فالاتباع لا يمكن أن يكونوا مصدر قرار وطني، والقبول بهم كجز من الحل، بمثابة مطالبة العراقيين الدخول بنفس لعبة الباب الدوار في الدخول والخروج في آن واحد!
عندها سنخون الشارع المخلص للعراق عندما أطلق أول ثائر تشريني في ساحة التحرير شعار البلاد المخطوفة “نريد وطنا”.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى