أخبار الرافدين
طلعت رميح

أحوال الدنيا

فضل روسيا على ألمانيا في حرب أوكرانيا!

إن لم يكن ما جرى من اتفاق لتصدير الحبوب الأوكرانية وما تلاه من وصول البعثة الدولية للمحطة النووية بزاباروجيا، وما حدث مؤخرًا من انسحاب روسي من خاركيف تحت عنوان انتصار أوكرانيا.
ملامح متدرجة لتطبيق ما اقترحه هنري كيسنجر بخروج الطرفين منتصرين مع تقديم تنازلات متبادلة. فالمتوقع أن يطول المدى الزمني للحرب الأمريكية الروسية على الأرض الأوكرانية، وأن تتعقد مسارات الحرب وأن يتوسع الصراع إلى درجة إعادة إنتاج توازنات دولية مختلفة على نحو كبير.
وإذا كانت التغطيات الإعلامية، اهتمت في الفترة الماضية بالتغييرات المباشرة التي أحدثتها الحرب أو على ما تراه العين فالمتوقع أن تركز البحوث والدراسات على مؤشرات التغييرات الكبرى الناتجة عن الحرب والصراع على المدى المتوسط والبعيد، وهذا ما يراه العقل لا ما تراه العين كان طبيعيًا أن يجري التركيز في بداية الحرب على ما تتابعه العين من تغييرات جارية أو قيد التفاعل.
جرى التركيز على خسائر روسيا وأوكرانيا وعلى مواقف الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا والصين وعلى قضايا الطاقة وتأثيراتها على أوروبا، واقتصر تناول القضايا الأبعد أثرًا على مناقشة فرضيات تتعلق بنوايا الدول.
جرى البحث في فرضية استهداف روسيا تفكيك الأطلنطي، وجرى تدشين حملة إعلامية وسياسية للتأكيد على رد فعل عكسي لأهداف بوتن، وجرى البحث في فرضية خطط بوتين تفكيك الوحدة الأوروبية لإثبات العكس وعلى فرضية انحياز الصين لروسيا وجرى العمل على إخافة الصين…
لكن الفترة القادمة ستشهد تركيزًا على مؤشرات التغييرات في توازنات القوى الدولية والتحالفات وتأثيراتها على النظام الدولي الراهن وعلى ملامح النظام الدولي الجديد.
سيجري البحث، مثلًا، في طبيعة مستقبل أوروبا الشرقية بعد أن دشنت الولايات المتحدة حركتها الاستراتيجية الثانية للسيطرة عليها. كانت الولايات المتحدة قد فصلت أوروبا الشرقية عن الاتحاد السوفيتي في حركتها الإستراتيجية الأولى.
ومع انطلاق الحرب الأوكرانية، بل قبلها، بدأت بإنفاذ حركتها الاستراتيجية الثانية بالحضور والسيطرة العسكرية المباشرة على أوروبا الشرقية، وهو ما يطرح تساؤلات مستقبلية عن طبيعة العلاقات بين أوروبا الغربية التي سبق أن وصفها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد بأوروبا العجوز، ونظيرتها الشرقية وبين أوروبا الشرقية وروسيا.
وسيجري البحث عن مستقبل منظمة ميثاق شنغهاي، وما إذا كانت ستتحول إلى حلف دفاعي في مواجهة حلف الأطلنطي، وعن المدى الذي ستذهب إليه العلاقات بين روسيا والصين. بالدقة ستجري الإجابة عن سؤال إدارة التوازنات في عالم الغد ، غير أن أهم القضايا التي يجب أن تبحث أيضًا تتعلق بالدور الاستراتيجي المقبل لألمانيا.
من يقلب في كثير مما جرى تداوله حول ألمانيا، يجده محصورًا في تقدير الخسائر الاقتصادية التي أصابتها من جراء أزمة الغاز، وبالكاد، يجري الحديث عن خسائرها الاقتصادية بسبب انتشار استثماراتها وقروضها في مختلف دول القارة، بما في ذلك في روسيا، حتى أن هناك من وصل إلى حد القول، إن ألمانيا هي الخاسر الأكبر في حرب أوكرانيا!
لكن ألمانيا هي الكاسب الأكبر، وهي من ستلعب الدور الأكبر في إدارة التغييرات الجارية في أوروبا والعالم.
ألمانيا تخسر مالًا في المدى القصير، وقد تشهد بعضًا من الاضطراب، ولكنها تكسب استقلالًا وقوة على المدى المتوسط والبعيد. ألمانيا كسبت عودتها إلى مصاف الدول الكبرى مكتملة الإمكانيات والقدرات.
لقد وفر مناخ الحرب في أوكرانيا الفرصة لألمانيا للتخلص عمليًا مما فرض عليها من قيود بعد الحرب العالمية.
وحرص ألمانيا الذي تبدي في التمايز عن الموقف الأمريكي والبريطاني من روسيا لا يعود لقضية الطاقة إلا بصفته سببًا مباشرًا. هو يعود لخطتها المتنامية منذ سنوات للتحرر من شروط الاستسلام المفروضة عليها بعد الحرب العالمية الثانية، سواءً على صعيد بناء جيشها أو على صعيد استعادة احتياطاتها من الذهب الموجودة في الولايات المتحدة، وترفض إعادتها لألمانيا.
مثلت الحرب الأوكرانية فرصة لألمانيا لإطلاق بداية المرحلة الثانية من خطة استقلالها، فبعد نهاية الحرب الباردة تحركت برلين للعودة إلى دورها الدولي.
وكان الطريق المتاح هو إعادة بناء نفسها على الصعيد الاقتصادي، وهي نمت إلى درجة أن قال الخبراء الاستراتيجيون البريطانيون إنها حققت بالسلم ما فشل هتلر في تحقيقه بالحرب.
والآن تطلق ألمانيا المرحلة الثانية لخطتها، وهي تستكمل معالم قوتها بإضافة القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية، هي كانت تتهيأ لهذا التغيير على صعيد الساسة والرأي العام، فمنذ سنوات وألمانيا تشهد نقاشًا حاميًا داخلها بين من يقولون بإبقائها كما هي ومن يطالبون بإنهاء القيود المفروضة على بناء جيشها. ولم تكن مصادفة أن شهدت الأشهر الأولى للحرب إعلان المستشار الألماني شولتز إعادة بناء جيش ألمانيا وتخصيص ميزانية عسكرية تفوق ميزانية الدفاع الروسية وتقترب من ميزانية الدفاع الصينية.
وبناء الجيش الآن هو حالة مختلفة عما جرى من قبل حين طالبت أمريكا ألمانيا بقرار مشابه عام 1994، حين احتاجتها في حروبها الخارجية.
ألمانيا تبني جيشًا لها وهي تستعيد دورها الدولي لا الأوروبي فقط.
لقد قدمت روسيا لألمانيا الفرصة التي كانت تنتظرها، وهو ما سيحدث تغييرًا في التوازنات الدولية وفي إدارة الصراعات.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى