ذا أتلانتيك: العراق دولة فاشلة ونظام يتقاسم أموال النفط بحماية الميليشيات
روبرت وورث: الكاظمي لا يتمتع سوى بنفوذ محدود في بلد تديره عصابات الشوارع المسلحة والأموال المنهوبة والطائفية.
بغداد- الرافدين
أكدت مجلة “ذا أتلانتيك” الأمريكية فشل النظام التوافقي القائم منذ احتلال العراق عام 2003 على تقاسم أموال النفط وهيمنة الاوليغارشية “حكم الأقلية” والميليشيات التي تحميهم.
وقالت المجلة في مقال مطول للصحفي روبرت وورث المهتم بما يطلق عليه حكومة اللصوص والفساد في العراق “عندما يكتب المؤرخون في المستقبل عن جهود العراق المضطربة من اجل إقامة ديمقراطية على الطراز الأمريكي خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فإن رسالة استقالة وزير المالية علي عبد الأمير علاوي ستوفر لهم نظرة تتسم بالندرة عن الوضع الداخلي في دولة فاشلة”.
وبنى وورث فكرة مقاله على استقالة علاوي التي كشف فيها سلسلة من نشاطات الاحتيال التي جرت بموافقة أو ترويج من جانب بعض الرجال المحيطين به، والذين ساعدوا في خلق اخطبوط واسع من الفساد والخداع يسمم البلد كله.
وقال ان استقالة علاوي لاقت اهتماما اخباريا في العراق، الا انه خارج العراق بالكاد لاحظها أحد، وطغت عليها لاحقا اندلاع أعمال العنف بين ميليشيا سرايا السلام وميليشيا الحشد الشعبي في آب والتي تسببت في مقتل العشرات.
ونقل الصحفي الأمريكي الذي سبق وان كتب تقريرا مفصلا على قوى الفساد في العراق بصحيفة نيويورك تايمز، عن علاوي قوله إن الفساد كان أعمق مما كان يدركه، وأنه تعرف على الحقيقة المروعة حول تدهور آليات الدولة خلال السنوات الماضية، وأن الأحزاب وجماعات المصالح، استولت فعليا على الدولة، مشيرا الى ان وزارة المالية نفسها كانت مكتظة بأشخاص ليس لديهم خبرة مهمة أو مهارات لغوية، وليس لديهم سوى القليل من الإدراك للممارسات الحديثة في الإدارة العامة والشؤون المالية.
وأدرك علاوي الذي أعد لنفسه خريطة مفصلة تظهر مَن من الموظفين في الوزارة تابع لأي حزب، وأنه تبين له ان القوة الحقيقية تكمن في أيدي قادة الأحزاب والأوليغارشية وزعماء الميليشيات، مشيرا الى ان علاوي نفسه تعرض للتهديد بمنعه من السفر لأنه رفض تلبية استدعاء من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
الا روبرت وورث الفاهم لطبيعة المشهد العراقي منذ احتلال البلاد من قبل القوات الامريكية يقول إن رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي ووزير المالية علي علاوي لا يتمتعون سوى بنفوذ محدود في بلد تمارس فيه السلطة عبر عصابات الشوارع المسلحة والأموال المنهوبة والطائفية.
وفي رسالة استقالته، أظهر علاوي ان الفشل واقع حتما ليس فقط بسبب السياسيين الفاسدين، وانما أيضا بسبب “الإطار السياسي لهذا البلد”، مشيرا بذلك الى النظام الذي تم وضعه خلال فترة الاحتلال الأمريكي والذي يساهم في تعزيز المنافسة السياسية وتقاسم السلطة والذي تحول الى عملية توافقية يتم من خلالها تقاسم أموال النفط، عبر الوزارات من جانب الاوليغارشية والميليشيات التي تحميها.
غير أن وورث نقل عن محامين ونشطاء عراقيين وصفهم استقالة علاوي بـ “الخدمة السياسية لنفسه” لحماية إرثه أو تبرير عدم رغبته في الاستمرار بالقتال.
ولفت مقال المجلة الأمريكية إلى أن هذا النظام هو اللعبة الوحيدة المتاحة تقريبا في العراق حيث ان نسبة كبيرة تعمل في الحكومة، وأن جهود بناء قطاع خاص قادر على الحياة جرى تدميرها بشكل متعمد، وهو ما يعني أنه في حال ان العراق الذي يعتمد أكثر من أي وقت مضى على العائدات النفطية، في حال انهيار هذا النظام فيه فان البلد كله سوف يصاب بالإفلاس، ما عدا أفراد الأوليغارشية الذين يمتلكون منازل فارهة في لندن.
ووصف وورث وضع علاوي المقيم في لندن حاليا، قائلا إنه يبدو حزينا لكنه غير نادم، وأنه أمعن التفكير في قرار استقالته، وانه “كان يتخذ موقفا أخلاقيًا ويرغب في أن يوقظ الناس حيث يتعرض مستقبلهم للبيع”.
وختم التقرير بالإشارة الى حادثة تحمل الكثير من الدلالات، حيث ان أكثر رد فعل لم يكن متوقعا من استقالته جاء عبر رسالة نصية تلقاها علاوي باللغة العربية بعد عدة أسابيع من استقالته، من شخص يسميه العراقيون “الحوت”، وهو التعبير المحلي الذي يشير الى الاوليغارشية الفاسدة الممسكة بمصير العراق.
وعرض “الحوت” على علاوي صداقته وطلب مشورته. بالقول “أتمنى ان نتمكن يوما ما من الجلوس في إحدى مقاهي لندن، وبإمكاني أن أطلعك على القصة من جانبي انا، حتى يكون حكمك عادلا”.
الا أن علاوي لم يرد على الرسالة، وفق مقال روبرت وورث.
غير أن العراقيين يجمعون على أن علاوي أحد أهم مؤسسي نظام لصوص الدولة في العراق، كما يسميه وورث، منذ الساعات الأولى للاحتلال الأمريكي، وأن استقالته جزء من عملية دوران ماكنة الفساد وفق التوافقات المستمرة في العراق.
وتهكم عراقيون على ذريعة علاوي بقوله إن الوضع الحالي بأنه “غير معقول ولا مقبول”، متسائلين عن أي احباط يتحدث بعد 19 عامًا من مشاركته في سلطة الفساد والفشل، فهل “احساسه” متأخر إلى هذا الحد ليشعر بالإحباط بعد كل تلك السنين من مشاركته تقسيم الحصص في حكومات “لصوص الدولة”.
يذكر أن علاوي تقلد مناصب وزارية من الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي عام 2003، وتم تعيينه من قبل مجلس الحكم المنحل الذي عينه الحاكم الأمريكي بول بريمر بعد الاحتلال لشغل منصب وزير للدفاع وزير التجارة والمالية بالوكالة.
وشغل علاوي منصب نائب رئيس الوزراء ووزير المالية في حكومة الكاظمي التي تشكلت في أيار عام 2020، وقدم ما سمي حينها بـ”الورقة البيضاء” المتعلقة بالاقتصاد العراقي.
ويتساءل العراقيون هل الفساد المالي والإداري في الوزارات العراقية ومن ضمنها وزارة المالية هو وليد اللحظة؟ أم ينخر المؤسسات العراقية قرابة العشرين عامًا.
ويشير مراقبون إلى أن الطريقة الاستعراضية في تقديم الاستقالة وقبولها من قبل الكاظمي تعود أسبابها الحقيقية إلى الخلاف على توزيع حصص الدولة، لاسيما أن الصدر غير راضٍ عن علاوي وسبق وأن وبخه وطالب باستقدامه إلى البرلمان.
ويجمع المراقبون على أن فضائح الفساد التي كشفها علاوي في استقالته، أشبه بالانتقام من وضع سياسي فاسد كان شريكًا ومساهمًا فيه، ولم يعد له مكانا فيه.
وكان الصحفي روبرت وورث قد فتح نافذة أمام الرأي العام العالمي تكشف عن العناوين الكبيرة في الفساد الجاثم على صدر العراق بتقرير مطول في صحيفة نيويورك تايمز شرح فيه تفاصيل استحواذ قادة الميليشيات على نسبة من كل عقود المقاولات التي توقع مع الحكومة. إلى درجة أصبح ما سرق من ثروة العراق منذ عام 2003 يصعب عده.
وكتب وورث بعد أن ذكر أسماء قادة الميليشيات الفاسدة مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، فهم ليسوا فقط عملاء لإيران بالوكالة، بل هم أيضا الوجه الجديد لحكم اللصوص البيروقراطي، وإن من دعم ومكن هذه الميليشيات هي الطبقة السياسية العراقية الجديدة التي لا تسعى إلا إلى الثراء.
وقال “لقد قامت هذه العصابات متعددة الطوائف لسنوات عديدة بممارسة الاحتيال على كافة المستويات ومن ضمنها السيطرة المستمرة على نقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والتحايل على نظام الرواتب الحكومي”.
وكتب أنّ الميليشيات أصبحت تشكّل طبقة جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات. وعلى مرّ السنين أتقنت هذه العصابة العابرة للطوائف الحيل على جميع المستويات من الاحتيال المصرفي إلى الاختلاس من الرواتب الحكومية.
ويشبّه التقرير الحياة السياسية في العراق بحرب عصابات قائلا إنّ سطحها المضطرب يخفي عملا هادئا للنهب، ففي كل وزارة يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب لفصيل أو لآخر. فلدى الصدريين وزارة الصحة، ولدى منظمة بدر منذ فترة طويلة وزارة الداخلية، ووزارة النفط تابعة لتيار الحكمة.
ولا يخلي الصحافي وورث الولايات المتّحدة من المسؤولية عما آل إليه العراق من فساد عظيم، قائلا في تقريره إن واشنطن متورطة بشدة في كل هذا، ليس فقط لأن غزوها دمر البلاد، بل لأنها تقدّم الأموال التي يستفيد منها الفاسدون، إذ لا يزال الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يمد العراق بما لا يقل عن 10 مليارات دولار سنويا بالعملة الصعبة من مبيعات النفط. وقد تم تمرير الكثير من ذلك إلى البنوك التجارية ظاهريا لتغطية الواردات لكنّ العملية اختطفتها منذ فترة طويلة عصابات غسل الأموال.



