أخبار الرافدين
طلعت رميح

اشتباك استراتيجي بين فرنسا وألمانيا

أطلق الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في الأيام الماضية، اتهامات غير مسبوقة ضد ألمانيا، وهي المرة الأولى التي يتحدث فيها رئيس فرنسي عن ألمانيا بتلك اللغة وبهذه المعاني، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ماكرون تحدث عن أن المانيا تغير نموذجها، وتتحول من التضامن الأوروبي إلى حالة الدولة الوطنية، وأنها تخل بالتوازنات داخل القارة. ووصل حد اتهام ألمانيا بزعزعة الاستقرار في أوروبا.
كان ماكرون يتحدث بشأن الطاقة، لكنه حمل أقواله بمعان سياسية وإستراتيجية إلى درجة أعادت التذكير، بالهواجس الفرنسية التأريخية تجاه ألمانيا.
ما قاله ماكرون يشير، أو بالأحرى يميط اللثام عن تنامي الخلاف الاستراتيجي بين البلدين. ويؤكد أن فرنسا يساورها القلق من التحولات الجارية في قوة ألمانيا وتلك التصريحات سيكون لها تأثيرها على مسيرة الاتحاد الأوروبي ففرنسا وألمانيا هما ركيزتا بناء وقيادة وبقاء الاتحاد وهي تصريحات تؤكد أن شيئًا ما يجري تحت الطاولات بعيدًا عن المؤتمرات البراقة وأن علاقات البلدين ستشهد تفجيرات في الفترة المقبلة.
وحسب نص تصريحات ماكرون في مقابلة أجرتها معه صحيفة “ليزيكو” وكرر معانيها عدة مرات، قائلا “لا يمكننا أن نمضي قدمًا بسياسات وطنية لأن هذا الأمر يخل بالتوازن في القارة الأوروبية”، معتبرًا أنّ “قارة أوروبا، وعلى غرار ما حصل إبان أزمة كوفيد، أمام لحظة حقيقة.
ورأى أنّ “ألمانيا تمر بلحظة تغيير لنموذجها، ويجب عدم التقليل من أهمية طابعها المزعزع للاستقرار”، قائلًا “إذا أردنا أن نكون متّسقين، يجب ألاّ نتبنى استراتيجيات وطنية، بل استراتيجية أوروبية”.
وشدد الرئيس الفرنسي على “وجود تضامن أوروبي ضد ألمانيا”، وأنّه “من الطبيعي أن يكون هناك تضامن ألماني تجاه أوروبا”.
لقد بدا ماكرون في موقع الفيلسوف في صياغة عباراته، حين تحدث عن تغيير النموذج في ألمانيا. وبدا في موقع الاستراتيجي، حين تحدث عن ضرورة العمل وفق استراتيجيات أوروبية لا خطط وطنية. وبدا في موقع السياسي، حين تحدث عن “تضامن أوروبا تجاه ألمانيا” مطالبًا ألمانيا بفعل الأمر نفسه ضد دول أوروبا وحين تحدث عن أن سياسة ألمانيا مزعزعة للاستقرار في أوروبا
ما القصة؟ أو لمَ أنطلق ماكرون من قضية الطاقة إلى قضايا ذات طبيعة استراتيجية؟ ولمَ وصل حد توجيه الاتهام لألمانيا؟
للقصة أبعاد متعددة.
فهناك أن ألمانيا تتحرك في أزمة الطاقة بشكل منفرد أو على الصعيد الوطني لا الأوروبي إذ قررت دعم مواطنيها وشركاتها بطريقة لا يمكن للدول الأوروبية الأخرى مجاراتها فيها، كما هي ترفض وضع سعر محدد موحد لأسعار الطاقة. وهي المناسبة التي دفعت ماكرون للحديث
لكن قضية الطاقة لم تكن سوى “مناسبة”، فهناك ما هو أخطر، وذلك ما يفسر حديث ماكرون عن تغيير النموذج. فألمانيا عادت لبناء جيشها ليصبح الأقوى في أوروبا، أي أقوى من فرنسا، وهي تسعى لتكون قائدة أوروبا ومن يقوم بالدور الرئيس في حمايتها، كما قال المستشار الألماني، وهي تسعى لتغيير نظام التصويت داخل الاتحاد الأوربي، ليتحول من نظام “الفيتو” والإجماع إلى نظام الأقلية والأغلبية.
ولذلك تقلق فرنسا وبشدة وتقلق استراتيجيا لا سياسيًا فقط. فألمانيا التي أعلنت عن بناء جيشها ليصبح القوة العسكرية الأولى في أوروبا، لا تتحرك فعليًا لتشكيل قوة أوروبية تضمن مشاركة فرنسا، فإذا نجحت أيضًا في تغيير نظام التصويت في الاتحاد الأوروبي، ستتحكم أيضًا في القرار الأوروبي، بحكم معوناتها الاقتصادية واستثماراتها في مختلف الدول الأوروبية الأخرى، وبحكم دورها الاستراتيجي الحامي في أوروبا المقبلة، وهو ما لا تستطيع فرنسا القيام به بحكم حجم قوتها، وهنا فإن الدرس الاستراتيجي والتاريخي لفرنسا، وأحد ملامح رؤاها لأمنها القومي يقول: حين تقوى ألمانيا تضعف فرنسا والأمن القومي للدول هو مزيج معقد من التأريخ والجغرافيا، ولقد دفعت فرنسا دومًا ثمن قوة ألمانيا.
دفعت فرنسا ثمن وحدة وقوة ألمانيا، فيما يسمى بالحرب الفرنسية البروسية التي انتهت بإذلال فرنسا وضم أجزاء من أراضيها لألمانيا، ودفعت فرنسا ثمن قوة ألمانيا، حين اجتاحها هتلر واحتلها خلال الحرب العالمية الثانية.
ولذلك يقال إن ألمانيا وفرنسا، أعداء بالوراثة، وإن الجانب الفرنسي جاهز للاستثارة والشعور بالتهديد عن وعي أو عن غير وعي، حين تقوى ألمانيا، حتى أن الرئيس الفرنس ميتران، وقف ضد إعادة توحيد ألمانيا في الأمن القومي الفرنسي فكل تحول ألماني، نحو امتلاك القوة العسكرية، هو تهديد لفرنسا.
وفرنسا تقلق الآن من عودة ألمانيا لامتلاك القوة، وهي تعلم أن أوروبا تحتاج الآن لقوة ألمانيا، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وأن دولًا مثل إيطاليا، في الجنوب، ستذهب مباشرة للتحالف مع ألمانيا، فيما لألمانيا دور حاسم في شمالي أوروبا، وهو ما سيدفع فرنسا للبحث عن تحالف مع بولندا التي تسعى لتكون دولة مسيطرة في شرقي أوروبا.
وفرنسا تعلم كذلك، أن ألمانيا ستخرج قريبًا للمنافسة على الصعيد الدولي، وسيكون نفوذها الدولي على حساب فرنسا قبل غيرها، على الأقل في المرحلة الأولى من بحثها عن مصالحها الدولية.
وهكذا فرياح التغيير التي تهب كالعاصفة في مختلف أرجاء العالم لإعادة ترتيب التوازنات وتغيير ما كان مستقرًا، تهب الآن على أوروبا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى