أخبار الرافدين
طلعت رميح

الدولة الحضارة: أهم تجليات حرب أوكرانيا

تتواصل الفعاليات العسكرية والسياسية والاقتصادية والدعائية للحرب الروسية على أوكرانيا. ترتفع أحيانًا إلى درجة التهديد النووي، وتسير أحيانًا أخرى باتجاه متابعة الأعمال العسكرية التقليدية مع التحسب للمشكلات العرضية، كما هو حال الصاروخ الضال الذي سقط على أراض بولندا، وتتركز في لحظات أخرى حول مواجهة تأثيرات الحرب على إمدادات الغذاء.
وفي ظل هذا الدوران في دوامة الأحداث الجارية تحت عنوان السيطرة على الأرض تبقى التغييرات والمضامين بعيدة المدى التي تحملها تلك الحرب متوارية عن التفكير والدراسة، خاصة تلك المتعلقة بالأبعاد الحضارية للصراع ونتائجها فيما هي الأكثر استدامة والأشد تأثيرًا من تلك التغيرات المباشرة على صعد السياسة والاقتصاد بل حتى على التوازنات الدولية.
والتأثير الحضاري وتأثير متسع المجال ومتعدد الأطياف، وقد وصل خلال الحرب الروسية الأوكرانية، حد وضع أساس جديد وإعادة توصيف لحالة الدولة، التي اعتمدت كوحدة أساس في بناء النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد برز البعد الحضاري في طرح الرئيس الروسي بوتين بسؤال الهوية والوجود، في كل مضامين خطاباته وفق مقولة ما فائدة العالم بدون روسيا، وهو نوع من التأكيد مع طرح سؤال الحدود والوجود المستقبلي لدولة أوكرانيا، وتعمق بسؤال المصير بسبب النزاع ين مكوناتها المجتمعية بهوياتها المتعددة.
وحين تتحدث روسيا عن شن الحرب، للدفاع عن مواطنين يحملون الجنسية الروسية ويتحدثون اللغة الروسية، أو من أعراق روسية، فهي ترسم نموذجًا مختلفًا عن مفهوم وحالة الدولة الوطنية “والمصطلح الغربي المعتمد للتعبير عنها هو الدولة القومية” الذي اعتمد كوحدة أساس لقيام الدول وانضمامها إلى هيئة الأمم المتحدة.
روسيا تنتقل إلى فكرة وحالة “الدولة الحضارة” التي يتمدد وجودها ودورها، إلى حيث يوجد مكون مجتمعي من المنتمين لحضارتها، وتبنى إستراتيجيتها للأمن القومي بما في ذلك استخدام السلاح النووي على أساس الهوية الحضارية الذي يتخطى فكرة الدولة ذات الحدود –الإقليم والسكان المعتمدة دوليًا.
وفي المقابل تطرح أوكرانيا فكرة الدولة الوطنية “القومية” حين تتحدث عن الدفاع عن حدودها وسيادتها التي هي الأساس الدولي لوجودها. لكنها تجد نفسها واقعة تحت ضغط التفكيك الداخلي على أساس اختلاف الهوية الذي أنتجه التاريخ والتمدد الاستعماري الروسي .هي تبحث عن حدودها لكنها تجد نفسها عالقة في مواجهة السؤال عن هويتها.
ويزيد من ضرورة فهم دور البعد الحضاري الذي تطرحه الحرب في أوكرانيا أن ما يجري ليس حالة خاصة بل جانب من سياق يسري في المجتمع الإنساني كله>
الحالة البادية على ضفتي الحرب، ليست إلا مظهرًا لحالة تغيير قائمة وتتمدد إلى درجة التغيير الدولي الشامل إذ تنفض الحضارات –كل الحضارات- غبار السنين عن مكوناتها وخصوصياتها، وتعيد تأسيس دول كبرى تعيد صياغة النظام الدولي فكل نهضة وتطور وصراع دولي بات يجري الآن تحت عنوان الهوية وكل صراع داخلي يجري الآن تحت عنوان الهوية. وذلك هو أبرز أسباب شدة تعقيدات الوضع الدولي حاليًا، وسبب هذا التداخل بين ما هو خارجي وداخلي في المواقف الدولية.
العالم لا يشهد فقط عمليات “بناء القوة” بل يشهد جعل البعد الحضاري والهوية أساسًا لبناء القوة. ولذا باتت التعقيدات أبعد من خلافات السياسة الدولية وفق الصياغة التقليدية التي جرى العمل على أساسها من قبل. إذ كل الدول الصاعدة في العالم تبنى معالم نهضتها وفق نمط حضاري مستقل على صعيد الهوية. وهي حالة يراها الأمريكيون ما أطلق عليه صدام حضارات. ويحاولون حرفها إلى اقتتال دولي وجعلها أساسًا يقود لعمليات تفكيك الدول، فيما يراها آخرون عملية طبيعية لبناء نهضة الدول، إذ النهضة لا تجري إلا على أساس نمط حضاري مستقل متميز أو خاص وتحرري، في مواجهة العملية التاريخية الجارية منذ بداية الظاهرة الاستعمارية لفرض قيم ومنظومات الحضارة الغربية وجعلها مهيمنه في داخل كل المجتمعات الأخرى.
في بناء النهضة الصينية تجد الصين نفسها في قلب الظاهرة. وإذا كان البارز الآن هو قضية تايوان التي تبدو معلقة بأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية، فواقع الحال أن البعد الحضاري بدا أساسيًا في بناء النهضة، وهو يتخطى حالة تايوان ويتمدد إلى الوجود الصيني عبر الجاليات الصينية في مناطق أخرى ويجري داخليًا في مواجهة المسلمين وسكان التبت البوذيين.
وفي النهضة الهندية، يجري بعث الهندوسية، وهو ما دخلت عليه الأطراف الغربية، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني، لتحويله إلى مواجهة للمسلمين وحضارتهم في الهند، وفي مواجهة باكستان. وفي مواجهة الصين، إذ القضية الحدودية تتحول الآن إلى حرب هوية بشأن التبت، على اعتبار أن منبع البوذية في شمالي الهند.
وفي صلب الأمر، والأولى بالذكر والتأكيد أن الأمة الاسلامية كانت ولا تزال هي نموذج الدولة الحضارة الأولى عبر التاريخ، وأن اوروبا هي من أدخلت بالقهر والإرهاب ووفق إستراتيجية محددة فكرة الدولة الوطنية “القومية” لإنهاء حالة دولة الحضارة الإسلامية، وصنعت الحدود وجعلت من كل شعب أمة، ارتباطًا بنموذجها في بناء الدولة في أوروبا.
وهكذا ففي تجليات الحرب في أوكرانيا، أن العالم يتحول من فكرة الدولة الوطنية إلى حالة الدولة الحضارة أو الدولة الأمة الذي طرحه الإسلام.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى