أخبار الرافدين
تقارير الرافدينحكومات الفساد في العراق

الفساد والبيروقراطية ينهكان المواطن العراقي

الحكومة تمعن في إلحاق الضرر بالمواطنين من خلال إنجاز معاملاتهم قبل أن تلقي بها في مكبات النفايات في مشهد يدلل على حجم الانهيار الذي وصل إليه عراق ما بعد الاحتلال.

بغداد – الرافدين

تحول مشهد العثور على طلبات المتقدمين على الإعانة الشهرية من الرعاية الاجتماعية بين أكوام النفايات في الموصل إلى فضيحة مدوية بسبب كشفه الوجه الحقيقي لدوائر الدولة وحجم المشاكل المركبة التي تنهش بمؤسساتها الحكومية التي تتراوح ما بين الإهمال والاستغلال والفساد والإمعان في إلحاق الضرر بالمواطن المغلوب على أمره.
وأعرب العراقيون المتفاعلون مع المقطع المتداول على نطاق واسع عن غضبهم من هذه الظاهرة بعد أن تكررت بشكل كبير في الآونة الأخيرة في صورة معبرة عن الحال الذي وصلت إليه الدولة العراقية في تسيير معاملات مواطنيها وعدم احترامها لخصوصياتهم فضلًا عن أحلامهم وآمالهم.
ولا يقف الإهمال والاستغفال عند هذا الحد بل وصل إلى تحويل المنتفعين من الرعاية الاجتماعية إلى ضحايا يستغل حاجتهم وهمومهم سماسرة مقربون من الأحزاب والميليشيات.
وتتعدد في هذا السياق الأمثلة ومنها ما حصل للمواطن على زغير من كربلاء الذي أكد أنه تلقى اتصالًا من شخص عرف نفسه بأنه باحث في الشبكة الاجتماعية قبل أن يطلب منه إرسال المستمسكات الشخصية لتسجيل اسمه في شبكة الرعاية وبسبب ظروف هذا المواطن الصعبة أرسل له مستمسكاته ومستمسكات أولاده عبر تطبيق واتساب.
وبعد مرور عدة أشهر تفاجأ زغير بوجود شكوى من مكتب “كي كارد” في قضاء الفجر بمحافظة ذي قار بمبلغ 74 مليون دينار وشكوى ثانية من مكتب “كي كارد” في كربلاء بمبلغ 3 ملايين دينار بعد أن سحبت عن طريق مستمسكاته قبل أن يغلق الشخص الذي انتحل شخصيته وشخصية أولاده هاتفه ويتوارى عن الأنظار.
وعادة ما تنتهي الطلبات والأوراق الثبوتية للمواطنين في مكبات النفايات بعد أن تحقق الأحزاب وميليشياتها الهدف منها في تخدير المواطن لكي يعيش أملًا زائفًا.
ويقضي المواطنون عدة أيام وربما ساعات طويلة في أحسن الظروف قبل أن تنجز معاملاتهم لدى دوائر الدولة، التي عادة ما تجبر مراجعيها على “الركض في رحلة مكوكية” كما يعبر عراقيون لطبع الأختام والتواقيع وإرفاق صحة الصدور فضلًا عن انتظار الكشف وشهادات الخبراء.

مراجعة دوائر الدولة تستنزف من العراقيين الوقت والمال

ويطرق مسامع المواطن خلال رحلته المنهكة عبارات على شاكلة “رئيس القسم مجاز” و “تعال الأسبوع القادم”، وغيرها في مسيرة روتينية بطيئة تقنع المراجع على ضرورة ما يعرف شعبيًا بـ “دفع المقسوم” لمعقبي المعاملات والسماسرة لينهي رحلته مع استنزاف الوقت والجهد، وليحافظ على أعصابه وصحته.
وتثقل الرسوم ومتطلبات المعاملات والأختام الكثيرة كاهل المواطن اقتصاديًا في وقت تعيش فيه حتى ما يعرف بدول العالم الثالث عصر رقمنة إنجاز المعاملات أو الحكومات الإلكترونية التي عجزت الحكومات بعد عقدين من الزمن عن استنساخ هذه التجربة الحضارية التي تخفف عن كاهل المواطن.
وتحول هذا المظهر الذي يدلل على التخلف في الإدارة بعد العجز عن مواكبة التطور إلى ترهل وظيفي في ظل التخمة الكبيرة بأعداد الموظفين دون أن ينعكس ذلك على الإنتاج.
وعلى الرغم من إعلان وزارة الثقافة الحالية إلغاء معاملات صحة الصدور الورقية وإطلاق خدمة “نظام الوثائق الإلكتروني” بالاتفاق مع رئاسة الوزراء نهاية شهر تشرين الثاني الماضي إلا أن المواطن يرى في مثل هذه الأخبار دعاية إعلامية فقط.
وينتشر قرب كل بناية حكومية في العراق من يعرف بـ”المعقبين”، وعادة ما يعملون تحت غطاء محل طباعة وبيع القرطاسية، أو محال بيع الاستمارات، ويعتقد مواطنون أن هناك تعمدًا في عرقلة إنجاز معاملاتهم مقابل إعطاء مساحة كبيرة للمعقبين لكي يلجأ الناس إليهم.
وظهر معقبو المعاملات الذين تربطهم علاقة وثيقة بموظفي الدوائر الحكومية، لإنجاز المعاملات سريعًا للمواطنين الذين يطلبونها في مقابل مبلغ من المال يصار إلى الاتفاق عليه مسبقًا وهذا المبلغ يقتسمه المعقب مع الموظفين الذين ينجزون المعاملات دون التعامل مع المواطنين بشكل مباشر.

“المعقّب” .. مهنة تنتشر في العراق بسبب الروتين والفساد

ويرى المحامي مرتضى محسن أنّ “المعقب يتميز بمعرفة واسعة في تفاصيل المعاملات وكيفية تسييرها وتقديم الشكاوى، بالإضافة إلى امتلاكه شبكة من العلاقات في الدوائر الحكومية ولأنه معروف بين الموظفين، يسهلون عملية إنجاز عمله.
ويؤكد محسن أن “الفساد منتشر في العراق وليس مستغربًا القول إن الفساد موجود في أعلى هرم الدولة، وهو ما كشفه سياسيون كبار في تصريحات لهم ولأن الفساد يسجل حضوره بشكل لافت في دوائر الدولة، بات المعقب مطالبًا من قبل الموظف بدفع مبلغ من المال لإنجاز أي معاملة”.
وتبرز حلقة أخرى في المعاملات هي “المعتمد”، وهو الذي ينقل البريد بين الدوائر، ويعد حاليًا من الوظائف المطلوبة نظرًا للحصيلة المالية التي يجنيها من المواطنين الذين يدفعون مضطرين، بينما الآخرون الذين لا يملكون المال يتعين عليهم الانتظار طويلًا قبل استكمال معاملاتهم.
وتتطلب مراجعة الدوائر الحكومية للحصول على أوراق رسمية عدة أشهر، في حال لم يقم المواطن بدفع مبالغ مالية لهؤلاء، ولبعض العاملين في تلك الدوائر، بالرغم من أن المعاملة يمكن إنجازها في يوم واحد.
تقول السيدة فاطمة عبد الله بعد أن عادت من لبنان، إلى بغداد لاستكمال معاملة خاصة بأولادها، ومعها وكالة موثقة من زوجها، ووفقًا للنظام المتبع، أنه يتوجب أن تحصل هذه الوكالة على ما يعرف بـ”صحة الصدور”، وهو ما يتطلب الذهاب لوزارة الخارجية.
وتؤكد فاطمة دفعها مبلغ 300 دولار لصاحب مكتب استنساخ قريب من وزارة الخارجية من أجل تسريع التصديق وإنهاء المعاملة قبل موعد العودة إلى بيروت.
وتضيف “لو لم أدفع لاستغرقت المعاملة نحو أسبوعين في الوزارة، مع طوابير الانتظار، وسوء المعاملة على الشبابيك مع المراجعين”.
ويقول مواطنون آخرون إن إنجاز أي معاملة في دوائر الدولة يحتاج الى مراجعات كثيرة، وانتقال من مكان لآخر في ظل زحام الشوارع، والوقوف في طوابير طويلة عدة ساعات، فضلًا عن إنفاق مبالغ مالية كبيرة.
ويشكو المواطن ياسر الشمري من الإجراءات المتبعة في دائرة التقاعد، ويقول إن “مراجعة دائرة التقاعد تتطلب من المواطن أيامًا كثيرة ووقتًا وجهدًا ومالًا لإنجاز معاملته، وحتى لو أحضر كافة أوراقه الثبوتية، فإن معاملته لن تُنجز بحجة وجود نقص في المستمسكات الشخصية، أو المعلومات الخاصة بالمعاملة.
ويرى الشمري أن “أغلب الموظفين في دوائر الدولة يتعمدون في إذلال المراجعين، ما يشعر المواطن كأنه غريب في بلده”.
ويشير الشمري إلى أن “الروتين المعمول به في أغلب الدوائر الحكومية يجبر المراجع على الذهاب إلى الدائرة مرات متعددة، وقد تنتهي المعاملة بعد شهر في حين يستطيع الموظف إنجازها في غضون دقائق، وما يحدث لا يمكن أن يستمر لولا استشراء الفساد وغياب الرقابة”.
وكانت المنظمة العالمية لمناهضة الفساد (TRACE) قد وضعت العراق في المرتبة (163) من بين (194) دولة في العالم وجعلته على رأس قائمة الدول العربية الأكثر فسادًا تزامنًا مع تأكيد منظمات دولية من أن الفساد الذي تحول الى ترهل وظيفي عبر أنظمة إدارية متخلفة في ظل غياب الحكومة الرقمية، يفاقم من معاناة العراقيين في إكمال معاملاتهم في الدوائر الحكومية.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى