الاحتجاجات تشعل معركة الهوية في إيران
ترسخت الاحتجاجات الجارية في إيران وصارت حقيقة داخلية وإقليمية ودولية، وهي تقترب من إكمال شهر صمودها الثالث.
لم يعد ينظر لها بصفتها حالة تفجر سرعان ما تنتهي. وصار هناك من يصفها بأطول الاحتجاجات صمودًا وهناك من بات يطرح أسئلة جدية عن تحولها إلى ثورة تجري وقائعها في موجات متتالية.
وقد شهد موقف النظام انتقالا في الأيام الأخيرة. انتقل النظام من الإنكار إلى الاعتراف ومن تصويرها على أنها مجرد أحداث شغب وأن المتظاهرين مجرد ذباب إلى الحديث عن حرب عالمية كبرى، تجري ضد إيران، وصدرت تحذيرات بأن البلاد مهددة بفتنة أو اقتتال عرقي وطائفي، حسب إشارات حسين سلامى قائد الحرس الثوري.
وكان لافتًا أيضًا أن دخل خامنئي على خط عسكرة مواجهة الاحتجاجات وفق توجه خطير إذ التقى بقوات الباسيج في ما يسمى أسبوع التعبئة.
وقال إن قوات التعبئة جزء من النسيج الاجتماعي في إيران وليست هيئة منظمة فقط وتلك إشارة لاحتمال جر البلاد إلى حرب أهلية.
وفي متابعة تطور حركة الاحتجاجات وتوزعها الجغرافي- القومي، وبالعودة إلى تأريخ الصراعات والانتفاضات في إيران، يبدو واضحًا أن كلام حسين سلامي، تعبير عن تخوفات حقيقية وعن تهديد مبطن لدول الجوار.
فأهم ما يخيف النظام الآن، وهو الدافع لاعترافه بالأزمة، أن الهوية المزيفة التي فرضت على الشعب الإيراني منذ ثورة الخميني قد انتهى مفعولها.
ولعل ما حدث من احتفالات واحتفاء شعبي في مناطق متعددة بإيران بهزيمة المنتخب الإيراني لكرة القدم في كأس العالم بقطر، قد أظهر مدى عمق أزمة الهوية خاصة أن هذا السلوك قد ترافق مع صمت الفريق الإيراني عن ترديد كلمات النشيد الوطني. وكان الأشد دلالة أن جرى رفع العلم الإمبراطوري في زمن الشاه والهتاف بكلمات النشيد الإمبراطوري من قبل جماهير إيرانية بديلًا عن النشيد الرسمي الإيراني.
ولذلك فأخطر ما يقض مضاجع النظام الآن، أن الاحتجاجات صارت محتضنة “قوميًا” وتتمتع بقدر من الحماية في مناطق القوميات، وأنها باتت عنوانًا عامًا لانتهاء مفعول عملية فرض الهوية “الموحدة” التي بدأت مع ثورة الخميني.
لقد عاشت إيران حالة تمزق للهوية خلال حكم الشاه، بحكم شدة التنوع العرقي والطائفي والديني والقومي، وجاء الخميني ليفرض على المجتمع هوية جامعة أساسها تشييع الدولة، وحماية تلك الهوية بقوة السلاح.
تلك الهوية الشيعية وعناوينها الفرعية من الدفاع عن المظلومين والمضطهدين ينتهي مفعولها الآن، وما حركة إسقاط العمائم في الشوارع، إلا تعبير عن ذلك.
وإذ جرى دمج الهوية العقيدية بالقوة العسكرية وصارت هوية معسكرة، فأخطر ما يواجهه النظام الآن أن الاحتجاجات تظهر تحديًا قويًا لعسكرة الهوية العقائدية والنظام حين يتحدث عن حرب كبرى ومؤامرة لخلق فتن واقتتال أهلي، فهو يتجاهل أنه فرض هوية طائفية بقوة السلاح، ويتجاهل مغزى تراجع نسب التصويت والإحجام عن المشاركة في الانتخابات خلال السنوات الأخيرة، كحالة احتجاج وانسحاب سياسي من اعتبار النظام ممثلًا للمجتمع. وهو يتجاهل تأثير نتائج فشله الاقتصادي على حياة الناس، الذي تجسد في حذف أربعة أصفار دفعة واحدة من قيمة العملة الوطنية.
ويتجاهل أنه من تدخل بالعنف والقتل والتطهير الطائفي في دول الجوار، بما أوصل سمعة النظام في الإقليم إلى الحضيض.
لكن اعترافه يعكس مخاوف عميقة الآن، إذ كل حواف الدولة المشكلة من قوميات مضطهدة في وضع التحرك بحثًا عن هويتها القومية والدينية. والجغرافيا السكانية لإيران تتمركز فيها القوميات والطوائف غير الشيعية في أطراف البلاد. وما يقلق النظام الآن ليس فقط الاحتجاجات واحتضانها قوميًا، بل تحوله هو أيضًا، إلى النموذج السيء بين دول المحيط التي أصبحت نموذجًا جاذبًا للقوميات التي اقتطعت من مجتمعاتها ومن جغرافيتها وجرى ضمها قسرًا لإيران.
ينظر النظام بقلق لبزوغ قوة أذربيجان وتحولها لنموذج جاذب للآذريين في إيران بعد تمكنها من هزيمة أرمينيا واسترداد أرضها المحتلة. ويزيد من قلقه تنامي الدعوات للانفصال بين الأذريين وتصاعد تعبيرهم عن رغبة بالانضمام لأذربيجان، وهي وطنهم الأم.
وقد رأى النظام بعينيه هذه المعاني حين جرب إرسال دعم لأرمينيا خلال الحرب مع أذربيجان، ورأى كيف خرج الآذريون للشوارع وحاصروا قوافل الدعم.
كما ينظر النظام بقلق شديد لتحرك البلوش في جنوبي البلاد. وهو يفهم جيدًا أنهم جزء من قومية جرى تقسيمها بقرار بريطاني عام 1878 بين إيران وأفغانستان ومن ثم باكستان بعد تأسيسها.
ويدرك خطر احتمالات تصاعد الاضطرابات في باكستان على الحركة عبر الحدود، كما يدرك أن تحرر أفغانستان من الاحتلال الأمريكي سينعكس على حركة البلوش أيضًا. كذلك يتخوف النظام مما يجري بشأن الأكراد في الإقليم. وهو يفهم مغزى تحول كردستان العراق إلى نموذج جاذب، تحت حماية القواعد الأمريكية.
والخطر الآن قيام النظام الإيراني باتخاذ خطوة استباقية وأن ينقل المعركة مع الأكراد والبلوش والآذريين، إلى داخل دول الجوار.
فالنظام حين يتحدث عن حرب عالمية، ويروج لفكرة التدخل في شؤونه الداخلية، ربما يمهد للتدخل العسكري في دول الجوار.
وفي كل الأحوال، إيران تعيش مخاض تحولات كبرى وأهم وأخطر المعارك الجارية الآن هي معركة الصراع على الهوية.