أخبار الرافدين
محمد الجميلي

مغيبون ومغدورون

تصريح بشع في حجمه ووقته ودلالاته، ذاك الذي صدم به رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ذوي المغيبين حين أكد أنهم قد تمت تصفيتهم، وأنه لا أمل لعائلاتهم بلقائهم في هذه الحياة الدنيا، فقد قتلوا جميعًا.
هذا التصريح الصادم للمنكوبين بفقد فلذات أكبادهم وللثكالى والأيامى بفقد أزواجهن وإخوانهن، وللأيتام بفقد الأب والمعين بعد طول انتظار ووعود في كل موسم للانتخابات، بحل ملف المخطوفين وإنهاء معاناة ذويهم، يدلل على استهتار بكل القيم والأعراف، وبيع لكل المروءات في أسواق النخاسة السياسية، ولامبالاة وقحة، وتكذيب لكل وعودهم الزائفة لذوي المغيبين التي كانوا يتاجرون بها لتحقيق مكاسب سياسية على حساب آلام وقهر المظلومين.
تصريح الحلبوسي عن المغيبين والمغدورين مع حديثه عن مستقبل أسود للعراقيين عام 2023 وتهديده بإنه لن تكون هناك عملية سياسية فيه، دليل واضح على إفلاسه السياسي في ظل حكومة الميليشيات وأن ما وعد به من مزايا ونصيب في هذه التشكيلة الوزارية لن يتحقق منه شيء مقنع له، ولذلك رجع لاستغلال هذا الملف الإنساني المؤلم كورقة ضغط في وجه شركائه من الميليشيات، وليس صحوة ضمير، أو دفاعًا عن مظلوم ومقهور، أو تَبَنّ متأخر لقضية المغيبين الإنسانية.
وإذا كان الحلبوسي يعلم أن المخطوفين المدنيين من المحافظات المنكوبة قد تمت تصفيتهم فلماذا لم يعلن هذا سابقًا؟ ولماذا كانوا يعدون ذويهم بحل ملفهم ولا يبلغونهم بمقتلهم؟… لماذا الآن؟!
والجواب لأن اعترافه بذلك يعد تهمة لهم بالتستر على جريمة الإبادة الجماعية، وبالشراكة مع القاتل في عمليتهم السياسية القذرة من أجل مغانم تافهة ومناصب حقيرة، وكلنا يذكر حين سأل أحد الصحفيين السياسي من محافظة الأنبار سلمان الجميلي عن جثث المدنيين تحت الأنقاض في الموصل -وهي بالآلاف- استنكف عن الإجابة وقال له: هذا السؤال ليس وقته الآن، نعم ليس وقته الآن فوقتهم هو وقت المكاسب وتقاسم المغانم أخزاهم الله.
في تصريحه الخطير حاول الحلبوسي النأي بنفسه عن المسؤولية في جريمة الإبادة الجماعية بحق المخطوفين المغيبين، في هروب بائس، وتنصل ليس في محله، فكل مشارك في النظام الطائفي القائم في أي منصب كان، يتحمل وزر جرائمه وفساده أمام الله والتاريخ، وقد شارك الحلبوسي مع زميله يحيى المحمدي النائب عن الصقلاوية فعليًا، في التستر على المقبرة الجماعية التي تم اكتشافها قرب الفلوجة حيث كان موقعها مقرًا لميليشيات الحشد أثناء الحرب على المدينة، لأن مصالحهم السياسية اقتضت لفلفة القضية وعدم الترويج لها، ولا إثارتها في البرلمان أو القضاء، لقد تواطؤوا مع القتلة على حساب أوجاع المنكوبين والمقهورين.
إن تأكيد رئيس البرلمان بإن المغيبين قد تمت تصفيتهم والغدر بهم، ودعوته لتعويض ذويهم، دون المطالبة بالقصاص من الخاطفين ومحاكمتهم بتهمة الإرهاب -وهو ما لا يجرؤ عليه- محاولة لطمس هذا الملف الخطير خوفًا من الميليشيات الخاطفة، أو طمعًا فيما عندها من هبات، مقابل عدم تحريك الملف قضائيًا محليًا ودوليًا.
وإن من العجائب والغرائب أن يطالب الحلبوسي بشمول المغيبين والمغدورين بقانون ضحايا الإرهاب، دون أن يطالب بمحاكمة القاتل الإرهابي -وهو معروف ومعلوم- وفق قانون مكافحة الإرهاب، بصفته إرهابيًا قاتلًا، مع توفر كل الدلائل على مسؤولية ميلشيات الحشد بعناوينها وأسماء قادتها على ارتكاب هذه الجريمة بحق المدنيين الأبرياء، وفي حال قلنا مغيبين أو مغدورين، فيبقى السؤال قائمًا: من غيبهم؟ ومن غدر بهم؟ ومن يقاضي الذين خطفوهم وغيبوهم أو غدروا بهم؟ ولا يمكن لمجرم أن يفلت من العقاب وإن تأخر تنفيذ العدالة بسبب غياب القانون، أو تحكم المجرم به وتسخيره لمصالحه.
إن العاقل ليحار في وصف ما يجري في العراق المنكوب؛ ميليشيات إرهابية ترتكب جريمة إبادة جماعية بحق أكثر من 20 ألف مدني برئ، بعد خطفهم أمام أنظار ذويهم، ثم لا يسألها سياسي أو قضاء أو حكومة أو بعثة الأمم المتحدة أين هؤلاء المخطوفون، ومن قام بتصفيتهم، ولماذا قُتلوا؟ وأين جثثهم؟ لا أحد يتجرأ على طرق هذه الأسئلة أمام هذه المليشيات التي تعير سكان المحافظات المنكوبة في كل مناسبة بأنها حررتهم من الإرهاب، ليتبين بعدها أنهم ارتكبوا أفظع الجرائم بحقهم، وبدون ذنب اقترفوه سوى أنهم كانوا محاصرين في مدنهم وقراهم، وصدقوا نداء رئيس الحكومة حيدر العبادي لهم بالبقاء في منازلهم، أو الخروج عبر ممرات آمنة كما سموها ولكنها ممرات الموت والانتقام، ثم بعد كل هذه الجرائم بحق الإنسانية، يصبحون حكامًا على بلد كل مقوماته بإيديهم، ويحصلون على اعتراف العالم كله، بما فيه أمريكا التي تضع هذه الميليشيات وقادتها على لوائح الإرهاب، فأي نفاق في هذا العالم المجنون؟
ومن المضحك المبكي أن النظام الطائفي الحاكم في العراق لديه وزارة باسم حقوق الإنسان، كان أحد وزرائها فيما مضى رئيس الحكومة الحالي محمد شياع السوداني، ولكن هذا النظام الطائفي لديه مقياسان مختلفان للدماء بحسب انتماءها، وللإرهاب بحسب طائفة مرتكبيه، فتعامله مع ضحايا سبايكر مثلًا ليس كتعامله مع جريمة إبادة جماعية في المحافظات المنكوبة، مع أن المسؤولين عن مجزرة سبايكر إرهابيون في قاموس النظام جرى إعدامهم، فلماذا لا يكون من خطف عشرات الآلاف من الأبرياء وغدر بهم إرهابيًا تطاله يد العدالة أيضا؟ وكيف لهذا الشعب المنكوب أن يحيا آمنا إذا كان من يحكمه متهم بالخطف والقتل والغدر وارتكاب مجازر جماعية بحق الآمنين.
ولرب سائل يسأل أين بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) وممثلتها الخاصة بلاسخارت من جرائم الإبادة الجماعية هذه، وأين مساعدتها لهؤلاء المنكوبين، مع أن سبب تأسيس بعثتها هو مساعدة العراق، إذا كانت ممثلة هذه البعثة تبارك لهذه المليشيات تشكيل حكومتها على الرغم من خسارتها في الانتخابات، وتلتقي بقادتها وهي منشرحة الصدر، مع أن أسماءهم على لوائح الإرهاب الدولي؟
من المؤكد أن بلاسخارت لا تشعر بمرارة الواقع خصوصا بعد تذوقها دهينية النجف الدسمة إثر اللقاء بمؤسس هذه المليشيات، ومفتي تشكيلها، والساكت عن كل جرائمها.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى