أخبار الرافدين
طلعت رميح

هل تقلب تركيا توازنات القوى في سوريا؟

تبدو تركيا الدولة والقوة الوحيدة المتحركة، أو القادرة على الحركة، الآن في سوريا.
وإذ ترجع الكتابات عن ضغطها العسكري على المجموعات الكردية المسلحة، وعن الحركة وتغيير المواقف من النظام الحاكم في سوريا إلى أسباب داخلية بعضها انتخابي وبعضها يتعلق بمواجهة الإرهاب وصيانة استقرار الدولة والمجتمع التركي، فالمتأمل المدقق لاشك يدرك أيضًا أن تركيا تعيد ترتيب التوازنات الإستراتيجية على الأرض السورية لمنع استقرار القوى الدولية والإقليمية على حدودها ولتوفير مساحة للضغط على الوضع الإستراتيجي الأمريكي، بعدما تحولت الولايات المتحدة إلى مساند لليونان في مواجهة تركيا، ولذلك لا يجب الفصل بين الحراك الجاري والأوضاع في سوريا من جهة، والوضع الدولي والإقليمي الذي تواجهه تركيا، من جهة أخرى.
لقد استقرت أوضاع الغرباء في سوريا، وفي استقرارهم خطر كبير على تركيا. كما دخلت تركيا الآن في مواجهة خطيرة قد تصل لحالة الحرب مع اليونان. وكان من الضوري إعادة ترتيب التوجهات وتغيير اتجاهات حركة القوة التركية بين مختلف المحاور خاصة أن تركيا تزايد دورها ونفوذها وتصاعدت معالم قوتها.
لقد استقر وضع روسيا في مناطق الساحل، والولايات المتحدة في الشرق، وإيران ونظام بشار الأسد وروسيا في الوسط، وفي الشمال استقرت وإن بطريقة هشة أوضاع القوى السياسية-العسكرية السورية المعارضة للنظام السوري. فيما استقر الكيان الصهيوني على سياسة إلهاب الظهر لمنع تمركز واستقرار الوجود الإيراني.
استقرت توازنات القوى وصارت كل قوة ترسخ وجودها وتدير إستراتيجيتها دون احتكاك مباشر مع بقية القوى إلا في جوانب تكتيكية.
فالولايات المتحدة تتحرك في سوريا كخط رديف لحركتها في العراق، وتنظر لوجودها في شرقي سوريا “منطقة سيطرة المجموعات الكردية المسلحة” كخط متصل مع وجودها ودورها في شمالي العراق.
وهي تتحرك ضمن إستراتيجية إعادة تشكيل الخرائط السياسية “دولة الأكراد” بطريقة عملية بالمراهنة على الزمن.
واستقرت روسيا على تأمين نقطة ارتكاز بحرية لأسطولها على استمرار بقاء النظام لتأمين شريك محلي يمنحها “شرعية” استمرار تلك القاعدة البحرية.
وعلى الإمساك بجانب من ورقة حراك المجموعات الكردية المسلحة لتأمين بقاء النظام وللضغط على تركيا وإيران أيضًا.
واستقرت إيران في إنفاذ إستراتيجية الانقلاب العقائدي والديموغرافي بعد إجلاء السنة من الجنوب والوسط إلى الشمال، وصارت تطور وتعمق الحزام السكاني الممتد من الحدود الإيرانية العراقية إلى سوريا إلى لبنان وإن تحت ضغط الضربات الصهيونية.
وفي كل ذلك بات طبيعيًا أن تكون تركيا هي الدولة المتحركة، وبالدقة الدولة المفروض عليها التحرك الاستراتيجي دفاعًا عن مصالحها الآنية المباشرة والإستراتيجية. إذ تجد نفسها مستهدفة من كل هذا الوجود والدور الإقليمي والدولي في سوريا.
تجد الإدارة التركية الحالية نفسها واقعة تحت ضغط سياسي- مجتمعي، إذ تستخدم المعارضة التركية ورقة المهاجرين السوريين في الانتخابات، لكن الأهم أنها تجد نفسها معرضة لنفس مخاطر الخطة الأمريكية للتفكيك الجاري في العراق وسوريا عبر اللعب بورقة الدولة الكردية.
كما أن الدولة التركية لاشك تدرك أن إيران، تشيد خطًا سكانيًا فاصلًا وعازلًا للتواصل السكاني والتجاري بين تركيا والعالم العربي، بما يقوض حركة أنقرة ودورها الإستراتيجي في المنطقة العربية.
وفي موازنة كل تلك الخطط والمخاطر، اعتمدت تركيا خطة متدرجة لتأمين حدودها الجنوبية عبر تحركات عسكرية سيطرت خلالها مع المعارضة السورية على بعض المناطق، وجاء تحركها هذه المرة لإكمال تأمين المناطق الباقية.
وهي مناطق تسيطر عليها المجموعات الكردية المسلحة التي تعمل تحت سيطرة وإدارة الإستراتيجية الأمريكية. وهنا يأتي إصرار تركيا على وحدة الأراضي السورية وتغيير الموقف من النظام إدراكًا منها بأن القبول بالتقسيم العملي يفتح الباب لانتقال الخطة الأمريكية للعب بالورقة الكردية من سوريا إلى تركيا. ويمنح إيران الفرصة لتشكيل السياج العازل في الوسط.
وقد اختارت تركيا هذا التوقيت لأسباب متعددة. منها أن روسيا بحاجة إليها بسبب الحصار المشدد عليها. والنظام في أضعف حالاته بحكم تفاقم المشكلات الاقتصادية التي باتت تعصف باستقراره داخل طائفته.
وإيران هي الأخرى تعيش وضعًا مضطربًا في الداخل والخارج. والأهم أن تركيا وجدت الفرصة مهيأة لمقابلة الانحياز الأمريكي والأوروبي لليونان في الصراع معها، إذ ينشغل الطرفان بالحرب في أوكرانيا، كما أن كليهما بأمس الحاجة للدور التركي بما يضعف ردود فعلهم.
رأت تركيا أن تعيد ترتيب التوازنات داخل سوريا للضغط على الخطة الأمريكية عبر فتح مساحة حركة تسمح لها بإدارة مواقف روسيا وإيران. وهو ما جاء مرتبطًا بحركة أنقرة الضاغطة لاستثمار حاجة السويد وفنلندا، وهما وكيلا الولايات المتحدة في تمرير المساندة للمجموعات الكردية، لتصويت تركيا على انضمامهما لحلف الناتو.
ورأت تركيا أن بإمكانها الآن تحريك العلاقات مع النظام السوري لعزل لعبة توحده مع المجموعات الكردية، كما استهدفت تعديل التوازنات داخل المجموعات الكردية بالضغط على الأشد تطرفًا في العداء لتركيا.
ولذلك يبدو أن الهدف الأول لتركيا هو فتح مساحة لتحريك التوازنات الراكدة، وإنهاء التوازن المغلق في سوريا لفتح مساحة للحركة، وتعيد ترتيب أوراقها الإستراتيجية تحسبًا لاحتمالات تصاعد الصراع مع اليونان.
وهو ما يظهر أكثر من حركتها لعزل اليونان عن أطرف عربية أخرى.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى