أخبار الرافدين
كرم نعمة

مثقفو الرئيس العراقي يفتحون القعر الآسن

عندما يضع العراقيون أسماء اباء الفشل السياسي وهم يعِدون البلاد بجنة ديمقراطية يتبادر إلى ذهنهم سيء الذكر أحمد الجلبي وقائمة الأذلاء أمام بوش ورامسفيلد قبل وبعد مجلس الحكم المنحل. لكنه على الأغلب كان يغيب عن جرد تلك القائمة أسماء منظّري أو مثقفي الزمن الشاذ عندما زعموا أنه سيكون متوهجا “…”! بعد احتلال العراق والقضاء على مفهوم الدولة. هكذا كان يراد تشكيل العراق الوهمي عبر نسيان العراق الحقيقي.
جلب الحاكم الأمريكي بعد الاحتلال بول بريمر معه ما يسمى “خبراء” بناء الدولة الجديدة، وفي النهاية أكتشف أنهم مجرد لصوص صغار ومجموعة من الانتهازيين كان هدفهم جمع أكبر قدر ممكن من المال والعودة إلى ما كان يطلقون عليه “جحيم المنفى”! بيد أن هذا الجحيم لم يكن سوى تعبير شعري واهن يعبر عن طبيعة المثقف العراقي الذي لا يكف عن ممارسة دور الضحية، وهو يمارس متعة زائفة لفرط شيوعها في الثقافة العراقية تكاد تكون المعادل التاريخي للمظلومية الطائفية.
من السهولة بمكان العودة الى جرد أسماء مثقفي الاحتلال، مع أنهم تواروا اليوم خلف مصالحهم الأنانية، بينما كانت مزاعم العراق الوطن أسوأ هامش في تجربتهم برغم كل الضجيج والافتعال الشعري والتنظيري.
يكاد يكون كنعان مكية المثال الأبرز بين تلك المجموعة. مكية كان يُصرح بنشوة الخائن بينما جحيم صواريخ الديمقراطية الأمريكية تنهال على العراقيين وفق فلسفة سيء الذكر دونالد رامسفليد “الحرب تجلب الحرية”. يصف مكية تلك الصواريخ بمثابة زهور وبالونات سعادة تهبط على العراقيين لأن الولايات المتحدة ستنقذهم من نظام صدام حسين الدكتاتوري.
بالطبع كان مكية أبرز العاملين في سنوات الاحتلال الأولى بمشاريع وهمية كان وظيفتها سرقة الدولة ببساطة متناهية، لكنه وجد أن الصراع على الفريسة الضخمة من أموال العراق بين لوردات القتل من الميليشيات ورؤساء الأحزاب، أكبر من قدرته. لذلك لم يجد غير أن يعود إلى أدراجه مثل غيره عندما فشل الخونة في تطبيع خيانتهم، أما صندوق أكاذيب الديمقراطية والحرية المتوخاة من الاحتلال، فقط أُقفل، وتوارى مثقفو الاحتلال، واحدا بعد الآخر.
وثّق مكية لاحقا ما يشبه الاعتراف والندم الناقص برواية صدرت بعنوان “الفتنة” حاول فيها أن يعتذر للعراقيين عن الزيف الذي مارسه على وسائل الاعلام الغربية من أجل تمرير أكاذيب احتلال العراق، وقبلها زيف الديمقراطية عندما تكون تحت وطأة أحزاب طائفية. رافضا في الوقت نفسه في حوارية افتراضية مع صدام حسين، بمتن الرواية، الاعتذار عن التبشير باحتلال العراق.
لأن كنعان مكية المثال الأبرز للسقوط الوطني يتم الاستعانة به كلما فتح متن مدونة التاريخ الشاذ للعراق تحت الاحتلال إلى اليوم، ومن السهولة بمكان أن يتم ادراج قائمة ما يمكن تسميتهم بمثقفي الاحتلال، سواء الانتهازي منهم الذي غادر، أو من بقي ليصبح منظرا للأحزاب الطائفية. يمكن أن نتذكر هنا كيف منح “أدباء العراق” درع الجواهري لإبراهيم الجعفري، لأنه لم يكن بنظرهم يمثل بصلف وضاعة الطائفية، ويمكن أيضا عرض الجحود الذي انبرى له مثقفو الأحزاب الطائفية لمحاصرة كل ما يمت بصلة لأدباء “جريمتهم” كانت مجرد رفض احتلال بلدهم.
لهذا لم يتحمل العراق جحودًا مثلما تحمل من نفاق المثقف العراقي وهو يؤرخ لزمن ضائع عبر عشرين عاما، ويطلق عليه نعوتا لا تنتهي بغير حرية جوفاء!
كان من المناسب العودة إلى هذا الاستذكار غير البعيد مع استقبال الرئيس عبد اللطيف جمال رشيد لمجموعة من مثقفي البلد، أنتهى بجملة تعبر عن الوهن الفكري، عندما دعا الأدباء والمثقفين العراقيين المهاجرين إلى العودة والمشاركة الفاعلة في إثراء الحركة الثقافية. وكأنه يستيقظ على سرير مختلف عما كان ينام عليه كل تلك السنين، بينما حتى “مثقفي” بول بريمر الذين جلبهم معه عادوا أدراجهم وأقفلوا صندوق أكاذيب تحرير العراق والديمقراطية.
عبد اللطيف رشيد يدرك أنه مجرد تمثال ورقي يستند على قواعد هشة، ووظيفة الرئيس ليس أكثر من تسمية لمن لا وظيفة له في العراق يستحصل مقابلها أموالا ضخمة. كما أن المثقف الانتهازي الذي برز بعد الاحتلال ليس بحاجة إلى دعوة رشيد لإيقاظ الوطنية المكسورة في داخله، فقد عاد للعراق عندما ملء الأمريكيون جيوبه بالمال ومن ثم أحزاب إيران في العراق، من أجل هتاف أجوف عن ديمقراطية لم يستطيع هذا المثقف بكل قاموسه اللغوي أن يدافع عما كان يأخذ راتبا عليه، هل كان احتلالا أم تحريرا!
أو كما كتب صديقي الشاعر فاروق يوسف في يوم ما “لقد استنفد مثقفو الاحتلال أساليبهم من أجل فرض العراق الجديد غير أنهم لم يتمكنوا من الانتصار على الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها. فالعراق الجديد هو عراق الفقر والبطالة والتمييز والعزل والطائفية والقهر والكراهية. هو عراق يظل مقيما على القشرة ولا يمد جذوره في الأرض التي ترك الأجداد في أعماقها أنهارا من العاطفة. تلك عاطفة لا يمكن اللعب بمفردات أبجديتها. كل مفردة هي حكاية مثلما كل درب من دروب بغداد هو نهر يكشف عن وجوه الأقرباء الذين تركوا آثار أقدامهم ماثلة كما الأغنيات”.
كذلك أقام الرئيس عبد اللطيف رشيد مهرجانا صغيرا للمثقف الذي يحتفي ببؤسه بالعملية السياسية بوصفه إنجازا، بينما كل الذي يجري يراد فيه للعراقيين الا يلتفتوا إلى الوراء، كي لا يروا القعر الأسن، فتح الرئيس ومثقفوه فتحة صغيرة في هذا القعر!

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى