أخبار الرافدين
د. فارس الخطاب

أزمة الدولار وهزالة الدولة العراقية

لا توجد أزمة للدولار الأمريكي في العراق، بل هو إجراء معلوم بالنسبة للحكومة جاء نتيجة تهاون أو تواطؤ الحكومات المتعاقبة في موضوع التحويلات المصرفية أو عبر المنافذ الحدودية لمئات الملايين من الدولارات إلى إيران. هذا الإجراء ربما لم يفاجئ رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، لأن الجانب الأمريكي أطلعه على نتائج متابعة حركة الأموال العراقية وبالأرقام وأسماء الشبكات التي تقوم بتلك العمليات. وهم مجموعة من الإيرانيين وبعض العراقيين وبإدارة وإشراف السفارة الإيرانية في بغداد التي تتولى شؤون ملفات عديدة، كل ملف منها يعتبر تدخلاً في الشأن العراقي.
انخفاض قيمة الدينار العراقي وارتفاع أسعار الدولار في الأسواق وتداعيات هذا الارتفاع على أسعار المواد الغذائية والسلع المستوردة في البلاد، تقف وراءها إجراءات وزارة الخزانة الأمريكية وتحديداً الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. حيث استهدفت تلك الإجراءات مجموعة من المصارف التجارية العراقية التي تتعامل مع إيران وتحت أغطية متعددة للإفلات من العقوبات المفروضة على طهران، ثم أعقبتها بكشف أسماء الشبكة المتعاملة بهذا الموضوع الذي تعتبره واشنطن غسيلاً للأموال ومحاولة لتخفيف الضغط على الحكومة الإيرانية اقتصاديًا.
“حان الوقت لجعل النظام المصرفي العراقي يمتثل لممارسات تحويل الأموال العالمية” بهذه الجملة التحذيرية عبر مسؤول كبير في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، عن جدية واشنطن في شد الحبال تجاه الحكومة العراقية التي خسر العراق بسبب إغماض عيونها عن عمليات تهريب الدولار لسنوات طويلة، مئات المليارات التي كانت كافية لإعادة إعمار العراق وبناء شبكة خدمات مثالية لشعبه. وبالفعل فإن نتائج الإجراءات الأمريكية خفضت كمية المبالغ المهربة إلى إيران وخلال ثلاث أشهر فقط من حوالي 250 مليونًا إلى حوالي 20 مليون دولار يومياً بحسب المراقبة الأمريكية.
لطالما كانت العلاقة بين إيران والعراق ما بعد احتلاله عام 2003 مبنية على أساس نظرية الأواني المستطرقة، لكن باتجاه واحد “العراق” إلى “إيران”. وفي مثال العملة الصعبة فإن الأرقام تثبت ذلك بشكل يومي ومنذ تشكيل أول وزارة عراقية بعد الاحتلال؛ فمعدل التحويل اليومي داخل العراق بحدود 80 مليون دولار وما يذهب إلى إيران “سواء مباشرة أو عن طريق سوريا أو إقليم كردستان” 250 مليون دولار يومياً أيضاً. ولأن هذه النظرية حققت لإيران وحلفائها موارد دائمة، تسابقَ وكلاء إيران في العراق من بعض أرباب العملية السياسية لإنتقاد إجراءات الاحتياط الأمريكي ووجهواً سيلاً من الانتقادات للسوداني لعدم وقوفه بوجه الإرادة الأمريكية بحزم، متخذين شعارات عاطفية كـ “سلاح التجويع” للشعب العراقي، في حين هم يعلمون أن السوداني ولِد من رحِم انتماءاتهم العقائدية والتنظيمية وأن واشنطن وضعته على بيّنة من أمره بأسماء وتفاصيل ومواقع شبكات تهريب الدولار من العراق إلى إيران. لكن ما يجب أن يعلمه قادة الإطار التنسيقي أن البينة لا يمكن أن يغطيها أحد وقد وضعت واشنطن هذه البينّة أمام أنظاره حتى خرج بلقاء تلفزيوني ليقول “في السابق، كنا نبيع 300 مليون دولار، أو اقل بقليل في اليوم الواحد. الآن البنك المركزي يبيع يومياً من 30 إلى 50 مليون دولار فما الذي تغير، ما الذي فُقد في السوق، لا شيء، إذاً أين كانت تذهب الأموال التي تخرج؟ وكلها بفواتير مزورة. هناك سلع يُدخلونها بأسعار غير منطقية، واضح أن الهدف منها إخراج العملة خارج العراق، هذا الأمر يجب أن يتوقف”.
وأضاف السوداني “نسمع أن هناك تهريباً لأموال تُنقل إلى إقليم كردستان، ومن الإقليم تذهب إلى دول الجوار”.
من خلال تصريح السوداني يتضح حجم هزالة الدولة العراقية التي دأبت خلال أكثر من عشرين عاماً على وضع شعبها في حالات متنوعة من القحط والإرهاب وانعدام الخدمات والتعليم والأهم التطلع إلى مستقبل معلوم.
عشرون عاماً وإيران على وجه الخصوص وفيلق القدس الذراع الأقوى للحرس الثوري الإيراني يسرح ويمرح في كل أنحاء العراق مساهماً في قتل واختفاء مئات الآلاف من العراقيين. عشرون عاماً وهذه الحكومات تصدر لإيران الدولارات الخضراء وتوزع على شعبها “الحصرم”. عشرون عاماً ولم تجرأ حكومة واحدة على طرح موضوع تحويل مجرى أنهرها التي كانت تمثل روافد لنهر دجلة وسواه، على الحكومات الإيرانية المتعاقبة، وهذه المعلومة أكدها بشكل صريح نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية فؤاد حسين خلال لقاء أجرته قناة عربية بارزة.
وعلى ذكر فؤاد حسين، فإن الولايات المتحدة لم ترغب بتحديد موعد لزيارة السوداني لواشنطن، حتى يتم التوصل إلى صيغ يتوقف معها العراق على استخدام نظرية الأواني المستطرقة لصالح إيران، فكان الاتفاق أن يكون هناك لقاء مع وزير خارجية العراق ومحافظ البنك المركزي مع بعض المسؤولين الأمريكيين في واشنطن في السابع من شباط، حتى يشكلوا قاعدة مواقف تجاه إيران، وهو أمر بالغ الصعوبة والأهمية لأنه سيفضي إلى سلوك جديد لواشنطن في العراق بعيداً عن التوترات مع إيران مع دعم حكومة السوداني إذا ما رغب بنزع عباءة الإطار التنسيقي عن كتفيه.
إن أهم ما يميز فترة حكم السوداني هو العلاقة المطردة مع السفيرة الأمريكية في العراق إلينا رومانوسكي التي حاولت أن توضح للعراقيين أن السلوك الأمريكي لصالح الشعب العراقي في النهاية، حيث أكدت في لقاء تلفزيوني على أن الولايات المتحدة لا تضع ولا تحدد سعر صرف الدولار مقابل الدينار، وإنها لم تفرض عقوبات جديدة على مصارف في العراق، بل تواصل آلية استغرقت عدة أعوام لتقوية القطاع المصرفي العراقي من أجل مساعدته على الامتثال للنظام العالمي، وضمان منع استخدامه لغسيل أموال الشعب العراقي وتهريبها إلى الخارج.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل واشنطن ترغب بمنع تهريب أموال الشعب العراقي لإيذاء إيران والتزامًا بالعقوبات المفروضة عليها، أم إنه سلاح مزدوج يشمل إيذاء إيران من جهة والضغط على شعب العراق للقبول بأي مخرج يعيد لهم مستوى جيدًا من العيش بغض النظر عمن يحكمهم؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى