أخبار الرافدين
تقارير الرافدين

المؤرخ الراحل مصطفى جواد: البرامكة اغتالوا الأئمة واشاعوا الفتنة

مقال تاريخي للدكتور مصطفى جواد نشر في مجلة الرسالة عام 1934 يؤكد أن البرامكة كانوا حربًا على الإمامة وعيونًا على التشيع وراءها الفتك والزندقة ومحاربة الإسلام.

فند المؤرخ واللغوي الراحل الدكتور مصطفى جواد في دراسة نشرها في مجلة الرسالة المصرية العدد 27 السنة الثانية، الصادرة في الثامن من كانون الثاني 1934 الأوهام التي وقع فيها بعض المؤرخين عن أسباب قيام الخليفة هارون الرشيد بضرب العناصر الفارسية “البرامكة” وإنهاء سطوتهم ونفوذهم.
وبخلاف ما أشيع عنهم بأنهم تعرضوا لضربة الرشيد بسبب انحيازهم لآل الإمام علي بن أبي طالب “رضي الله عنه” ودفاعهم عنهم، قال العلامة مصطفى جواد إنهم كانوا يوغرون صدر الخليفة هارون الرشيد ضد أبناء عمومته من آل الإمام علي، وأن شيخهم جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي قد ذبح الإمام عبد الله بن الحسن بن علي بن ابي طالب، وأن والده يحيى بن خالد البرمكي قد اغتال الإمام موسى بن جعفر الكاظم رضي الله عنه بالسم.
ويمثل المقال وثيقة تاريخية في غاية الأهمية، تعيد “الرافدين” نشره كاملًا.

مشكلات التاريخ – نكبة البرامكة
مصطفى جواد

لعل أغرب ما وهم فيه المؤرخون فعمى عليهم سبب تدمير هارون الرشيد للبرامكة أنهم عدوا بني برمك دعاة للعلويين، ومذيعين لمذهب التشيع في البلاد. والمشكلة التاريخية إذا استبهم جانب منها تشعبت فيها الظنون واختلفت الآراء واضطربت الأحكام. ولو علم المؤرخون أن البرامكة تقربوا إلى الرشيد بالسعي على العلويين والسعي بهم وتبغيضهم لوجدوا إلى سبب تلك الفتكة الهامشية سبيلًا، وعلى الجلية دليلًا، وعلموا أنهم إنما حق عليهم العذاب ودمرهم الله تدميرًا.
لم يكن استئثارهم وحده سبب هلاكهم، ولا غزارة ثرائهم مدعاة للنقمة عليهم ولا الزواج الذي اختلقه الشعوبية موجبًا لاستئصالهم ولا إلحادهم منبهًا على عقابهم وإنما الندامة التي ندمها الرشيد بعد أن استدرجوه إلى تشريد بني عمه العلويين واستحلال دمائهم الزكية، وتعذيب الأبرياء منهم العذاب الهون.
لم يكن الرشيد ملحدًا حتى لا يندم ولا بليدًا حتى لا ينتبه ولا شقيًا حتى لا يتوب ولا مقصرًا حتى لا يتدارك من شفيعهم إليه. وقد ولغوا في دماء بني علي وطلبوا الزلفى بتعذيبهم وأعلوا مراتبهم بخفض العصبية الهاشمية واجتثاث الشجرة النبوية. ولقد جرؤوا بإلحادهم وسوء سيرتهم أن جعفرهم حز رأس حبيسه العلوي عبد الله الشهيد بن الأفطس، في يوم النوروز وأهداه إلى الرشيد في طبق الهدايا، فلما رفعت المكبة من فوق الطبق ورأى الرشيد رأس بن عمه استعظم ذلك، فقال له جعفر: ما علمت أبلغ في سرورك من حمل رأس عدوك وعدو آباءك إليك. وكان الرشيد قد حبسه عند جعفر وأمره بأن يوسع عليه. وقال ذات يوم: اللهم أكفنيه على يد ولي من أوليائي وأوليائك. فلم يجد هذا الشقي الكفاية إلا بقتله صبرًا لا سيف يذود به عن نفسه ولا بنو علي حوله يحوطونه ويكلؤونه ولا شفيع يرد عنه لؤم الزنادقة، وهو الذي شهد وقيعة “فخ” متقلدًا سيفين يذود بهما عن سيده. فلما أسر أخذه الرشيد وحبسه عند جعفر، فضاق صدره بالحبس، وكتب إلى الرشيد رقعة يشتمه فيها شتمًا قبيحًا فلم يلتفت الرشيد إلى ذلك، لأنه عالم بالعزة العلوية والاستبسال الهاشمي، ولم يأمر إلا بالتوسع عليه والترفيه عنه فكان من أمره مع جعفر البرمكي ما كان (1)
وقال السيد نعمة الله الجزائري (2) في سبب هلاك البرامكة على يدي الرشيد، وقد ذكرنا أن السبب فيه ظاهره حكاية العباسة أخت الرشيد. وأما السبب الحقيقي فهو دعاء أبو الحسن الرضا -ع – على آل برمك في موقف عرفة لأنهم سعوا بالكاظم -ع- وكانوا أقوى السباب في شهادته (3) وهذا التعليل وإن أورده الجزائري على حسب اعتقاده وتربيته الدينية؛ ففيه رد الرشيد على القائلين بأن هوى البرامكة كان مع العلويين. وبلغ الطيش ببعضهم أن جعل كل حركة الفرس دعوة للعلويين وطلابًا بحقهم، وانتصارًا لهم ونشرًا لمذهبهم وأين الزندقة من صريح الإسلام؟
وقال بهاء الدين أبو الحسن على بن فخر الدين عيسى الإرْبِلي الكردي في ترجمة الإمام موسى الكاظم “ما صورته” وكان السبب في قبض الرشيد على علي بن الحسن -ع- وقتله ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد النوفل عن أبيه عن مشايخهم قالوا: كان السبب في أخذ موسى الكاظم -ع-، أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد الأشعث فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي. فاحتال على جعفر بن محمد – وكان يقول بالإمامة – حتى داخله وأنس به فكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه. ثم قال لبعض ثقاته: أتعرفون لي رجلًا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج إليه، فدلوه على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد فحمل إليه يحيى بن خالد مالًا. وكان موسى يأنس بعلي ويصله ويبره. ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغبه في قصد الرشيد ويعده بالإحسان إليه، فعمل على ذلك فأحس به موسى -ع- فدعا به وقال له: إلى أين يا بن أختي قال إلى بغداد، قال وما تصنع؟ قال علي دين وأنا مملق، فقال له موسى -ع- أنا أقضي دينك وأفعل لك وأصنع. فلم يلتفت إلى ذلك وعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن (الكاظم) -ع- وقال له: أأنت خارج؟ قال نعم لابد لي من ذلك. فقال له انظر يابن أخي واتق الله ولا توتم أطفالي. وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم. فلما قام من بين يديه، قال لمن حضره والله ليسعين في دمي وليؤتمن أطفالي. فقالوا جعلنا فداك أو أنت تعلم من حاله هذا وتعطيه وتصله؟! قال نعم! حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (ص) أن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله وإنني أردت أن أصله بعد قطعه، حتى إذا قطعني قطعه الله. قالوا فخرج علي بن اسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد فتعرف منه على خبر موسى الكاظم -ع- فرفعه إلى الرشيد وسأله الرشيد عن عمه فسعى به إليه وقال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب وإنه، حتى قال ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد ثم دعى السندي بن شاهك فأمره في موسى بن جعفر في أمره فامتثله، وكان الذي تولى به السندي قتله جعله سمًا في طعام قدم إليه، ويقال إنه جعله في رطب فأكل منه موسى -ع- وأحس بالسم ولبث بعده ثلاثًا ثم مات في اليوم الثالث. وأخرج ووضع على الجسر في بغداد فأمر يحيى بن خالد أن ينادى عليه عند موته: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه! (4) فهذا الدليل الثاني على خطأ من نسب البرامكة إلى التشيع والإمامة. فقد كانوا حربًا على الإمامة وعيونًا على التشيع وراءها الفتك والزندقة ومحاربة الإسلام. ونقل عن بن يحي الإرْبِلي المذكور أن محمد بن الفضل قال: ولما كان في السنة التي بطش هارون فيها بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بهم ما نزل كان أبو الحسن (على بن موسى الرضا) واقفًا بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك فقال: إني كنت أدعو الله على البرامكة فقد فعلوا بأبي ما فعلوا فاستجاب الله لي فيهم اليوم فلم يلبث إلا يسيرًا حتى بطش هارون بجعفر وحبس يحيى وتغيرت حالهم (5).
فهذا الخبر كالذي أورده السيد نعمة الله الجزائري مضارة بني برمك لآل علي. ولكنه أقدم منه نقلًا كما نعرف من تاريخ المؤلفين. وكلاهما فيه نظرًا دينيًا، ومع ذلك يدلان على كره الإمام الثامن من الأئمة الاثني عشر للبرامكة ودعائه عليهم ربه. وقال محمد تقي التبريزي: من الأغلاط المشهورة ما اشتهر من أن البرامكة كانوا من المتشيعة، حتى أن أيدمر بن على الجلدكي ذكر في كتاب نهاية الطلب في شرح المكتسب بتقريب أنه كان سبب بطش الرشيد بهم ما أشتم منهم أنهم يريدون تحويل الدولة من آل العباس إلى آل علي وهذا كله غلط نشأ من قلة التتبع فإن البرامكة لعنهم الله هم الذين سعوا في قتل موسى الكاظم -ع- فإن يحيى بن خالد هو الذي بعث علي بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بن أخي موسى على السعاية بموسى عند هارون لداعٍ دعاه إلى ذلك مذكور في كتب الأخبار والفضل بن يحيى هو الذي بعث بالسم إليه فقتله بأمر هارون وبيد السندي بن شاهك بل وروى أن يحيى لم يكتف بذلك حتى أراد أن يغري هارون بقتل الرضا فقال له هارون أما يغنينا ما صنعنا بأبيه. أتريد أن نقتلهم جميعًا؟ وقد رواه الصدوق (6) في العيون عيون أخبار الرضا، عن صفوان بن يحيى وذكر في آخره أن البرامكة كانوا متعصبين على أهل البيت مظهرين العداوة لهم. وبالجملة الذي يظهر من الأخبار المعصومية أن الله لم يغير بالبرامكة من النعمة إلّا من جهة نميمتهم ومباشرتهم قتل موسى الرضا، فكيف يجري فيهم هذا الاحتمال؟ (عن صحيفة الأبرار 2 ص 396)
وهذه شهادة من أقوى الشهادات، فإن محمد تقي التبريزي هذا شيخي المذهب فارسي الأصل والبرامكة من جنسه، ولكن الحق عزيز على أهله فلا يضيعونه ولا يفارقونه وحل هذه المشكلة التاريخية. أن البرامكة إذا دخلوا الرشيد سياسة البغي واستدرجوا إلى قسوة الحكم وقتل السادة الأبرار الأبرياء من بني عمه تلقفهم بالرأي الحازم الحاسم ووضع السيف فيهم وعراهم بالمصادر والعذاب فعفى على آثارهم ويئست عاقبة القوم المكذبين بالدين الساعين في قتل السادة العرب وحفظة الإسلام وأهل الهدى والتقوى، لو لم يكن لهم من المساعي الخبيثة النتائج إلا قتلهم موسى بن جعفر لاستحل خليفة الزمان قتلهم فكيف وقد ضحوا بالكثير من العلويين وغيرهم من بهاليل العرب؟ فالرشيد إذن قد ندم على ما كان منه من الغفلة وأسف على أرواح أولئك الأبرياء وفطن لما يريد بنو برمك به وبالإسلام وسادات العرب فانتقم وتدارك واستغفر وهل من دليل على ذلك أقوى من قوله ليحيى أما يغنينا ما صنعنا بأبيه أتريد أن نقتلهم جميعًا. وإنه لما أرسل مسرورًا الخادم لقتل جعفر بن يحيى قال له جعفر: بم يستحل أمير المؤمنين دمي؟! فقال له مسرور قال أمير المؤمنين، بقتلك ابن عمه عبد الله بن الحسن بن علي بغير إذنه. فهذا دليل أصرح ما يكون على الندم والتوبة وبه تسقط آراء كثير من المؤرخين في نكبة البرامكة، وحسبنا بهذا أننا كشفنا غمة تاريخية بالأدلة الناطقة والبراهين الصادقة فاستقام بها ما جرى من مجاري التاريخ كان متعرجًا ملتويًا لا تطّرد فيه الحوادث ولا تسترسل الآراء.

وثيقة تاريخية

الهوامش
1 – عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب. ص 315.
2 – نسبة إلى جزائر واسط.
3 – زهرة الربيع ص 205
4 – كشف الغمة في معرفة الأئمة لعلي بن يحيى الكردي ص 247
5 – كشف الغمة ص 270 وانظر أيضًا صحيفة الأبرار ج 2 ص 296
6 – الصدوق لقب ابن بابويه أبي جعفر محمد بن علي القمي. وله ترجمة في دائرة المعارف الإسلامية باسم “ابن بابويه”

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى