أخبار الرافدين
طلعت رميح

نهاية مفهوم الحرب بالتداعي بين الدول الكبرى

تثير الاحتكاكات والتحرشات العسكرية بين روسيا والصين والولايات المتحدة “الناتو” مخاوف الكثيرين من أن يؤدي أحدها لاندلاع الحرب العالمية.
وما إن يحدث حادث احتكاك بين طائرتين أو إسقاط طائره هنا أو هناك، حتى يشغل الإعلام الناس بتصاعد نذر الحرب.
حدث هذا في الأيام الماضية بعد إسقاط مقاتلات روسية طائرة مسيره أمريكية في البحر الأسود، كما حدث بعد وقوع احتكاك خشن بين مقاتلة صينية وأخرى أمريكية في أجواء بحر الصين الجنوبي، وعند ظهور المنطاد الصيني في الأجواء الأمريكية بشكل خاص بعد إسقاطه بصاروخ من طائره أمريكية بعد مطاردة هوليودية. وكذلك الترويج لاحتمالات الحرب حين أسقطت إيران طائرة مسيرة أمريكية في زمن دونالد ترامب، فحينها جرى إشغال العالم بالتكهنات ثم جرى الترويج لفكرة أن ترامب ألغى قرار توجيه ضربة لإيران قبل انطلاقها بدقائق وخرج هو ليقول إنهم لم يسقطوا الطائرة المأهولة وكأنه يشكرهم!
ومثل تلك المخاوف غالبًا ما يجري إذكاؤها بذكر “سوابق” لعل أكثرها شهرة ما جرى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى “والأصح الأوروبية الأولى”، إذ تحدثت كتابات تاريخية عن أن اغتيال وريث العرش النمساوي، في حزيران عام 1914، كان مفجرًا لتلك الحرب التي تحولت من نزاع داخل أوروبا إلى حرب في مختلف مناطق الوجود الغربي في العالم.
بغض النظر عن حقيقة تأثير هذا الحدث أو ما يشبهه، فإن الحروب الكبرى لم تندلع ولن تندلع إلا لأسباب كبرى وأن مفهوم الحرب بالتداعي أو بتداعي الأحداث قد انتهى، منذ امتلاك العديد من الدول الأسلحة النووية.
لم يعد قرار الحرب ممكنًا جراء حدث طارئ أو مفاجئ، بل حتى لم يعد قرارًا لفرد –حتى الرئيس-دون مشاركة منظومة كاملة من المؤسسات.
ولذلك يجري التمييز بين تهيئة الأوضاع للحرب والاستعداد لها، وبين حدوث مفجر سواء كان مصطنعًا أو جرى مصادفة، وبين وقوع حادث في وقت لا يريد أحد اندلاع الحرب فيمضي الحدث ويجري تسكينه في زاوية تحسين التواصل بين الدول الكبرى، لتفادي اندلاع الحرب.
لقد انتهى مفهوم الحرب بالتداعي، والدول الكبرى باتت مؤسساتها على تواصل مع بعضها البعض، للسؤال وطلب التفسير عبر الهواتف الحمراء والخضراء التي يجري من خلالها طلب إيضاحات فورية عند وقوع مثل تلك الحوادث، والإبلاغ عن إجراء تمرينات أو تجارب صاروخية كما أن أجهزة المراقبة التي تعمل على مدار الساعة، باتت توفر المعلومات الفورية للدول.
ويصل الأمر أحيانًا لتبادل توضيحات بين العسكريين، حتى لا يساء تفسير تصريح لهذا المسؤول السياسي أو ذاك، كما حدث حين تواصل رئيس أركان الجيوش الأمريكية مع نظرائه الصينيين من وراء ظهر الرئيس ترامب حتى لا يسئ القادة الصينيون تفسير تصريحاته.
بل أصبح ممكنًا القول إن مفهوم الحرب بالتداعي جرى بعثه من زمن قديم، للتغطية على استراتيجيات وخطط إشعال الحروب، حيث لا يريد أحد الأطراف تحميل نفسه المسؤولية التاريخية لإشعالها، سواء كان هذا الطرف مشاركًا في تلك الحرب أو ساعيًا لإشعالها بين دول أخرى.
والأهم أن إشعال مثل تلك التكهنات وتوجيه أذهان الناس إلى حيث لا ترى، هو محاولة للتعتيم على حقيقة ما يجري من تغييرات ذات طابع استراتيجي.
على أي حال، فالحاصل الآن ليست أحداثًا تتداعى فتشعل الحرب العالمية، ما يجري هو نمط من الصراعات المحسوبة بدقة متناهية لتغيير التوازنات وتغيير قواعد السيطرة على مناطق هنا أو هناك، عبر أحداث متفرقة تحمل رسائل وتغير قواعد اللعبة لا أكثر ولا أقل.
في حادث إسقاط الطائرات الروسية المسيرة الأمريكية، أرادت روسيا إرسال رسالة عملية أن سيطرتها على القرم لا رجعة فيها وأن ما سبق وأن أرسلته للإدارة الأمريكية لإحاطتها بالعملية الروسية الخاصة، قابل للتغيير والتوسع جراء الموقف الأمريكي من تلك العملية، وأن روسيا لن تسمح بغرق قطعة بحرية أخرى في البحر الأسود، وأنها ستمد نفوذها البحري والجوي في البحر الأسود، ردًا على توسع الناتو باتجاه السويد وفنلندا.
وفى حادث الاحتكاك بين مقاتلة صينية وأخرى أمريكية، أرادت الصين الإبلاغ أن بحر الصين الجنوبي، بحر للصين.
وفي حادث المنطاد الذي تجول في الأجواء الأمريكية، أرادت الصين تغيير قواعد اللعبة. قالت إنها قادرة على الوصول وإن استمرار الولايات المتحدة في أعمالها “ضد السيادة” الصينية في تايوان وبحر الصين الجنوبي، سيقابل بالوصول إلى الأراضي الأمريكية أو الاقتراب منها تمامًا، مثلما قيل بإن تزويد الولايات المتحدة تايوان بالسلاح ستقابله الصين بتزويد روسيا بالسلاح وربما يتطور الأمر غدًا لتسليح دول أمريكا اللاتينية المعادية للولايات المتحدة، بل حتى إنشاء قواعد صينية هناك.
وهكذا فنحن أمام محاولات روسية وصينية لتأمين مجالهما الحيوي، لا حدودهما الجوية والبحرية فقط، لإنهاء السيطرة العالمية لأمريكا على البحار والأجواء عمليًا وربما للتفاوض حول الأمر مستقبلًا وذلك يجري عبر تحركات محسوبة بدقة ولا يتوقع لها أن تشعل لا حربًا عالمية ولا حتى حربًا إقليمية.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى