أخبار الرافدين
طلعت رميح

فرنسا: نهاية الرشوة الإمبريالية للمجتمع!

تعيش فرنسا على وقع أزمات اجتماعية متجددة، من مظاهرات السترات الصفر إلى تظاهرات قانون التقاعد وهي تعاني من اضطراب المشهد السياسي والثقافي بسبب تنامي قوة اليمين العنصري المتطرف دينيًا وقوميًا، ورفعه شعارات طرد المهاجرين، وهم مواطنون فرنسيون، ومن تحول الوسط التأريخي تحت ضغطه إلى نسخة يمينية بائسة توافق على إصدار قوانين تعتدي على عقائد وحريات المواطنين.
وتتراجع فرنسا على الصعيد الدولي، ليس فقط أمام قوى كبرى كالصين وروسيا، بل حتى أمام قوى إقليمية مثل تركيا وإيران. كما باتت قواتها تتعرض لحالات طرد مهينة من دول إفريقية كانت خاضعة لسيطرتها لعقود طويلة، وحتى حلفاؤها الغربيون باتوا يخرجونها من حساباتهم الدولية، إذ ألغت الولايات المتحدة وبريطانيا صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، كما جرى استبعادها من الترتيبات الإستراتيجية في جنوب شرقي آسيا.
فماذا يجري؟ وهل ثمة علاقة بين التراجع الخارجي لفرنسا والتوترات المتصاعدة في داخلها؟
ليس جديدًا أن دولًا تقوى وتتطور وأخرى تتراجع، إذ إن نمو الدول لا يجري بوتيرة واحدة، بل وفق قانون النمو غير المتوازي. وذلك أنتج حروبًا كبرى بين الدول الاستعمارية. فما إن قويت ألمانيا وإيطاليا حتى طالبتا بنصيبهما من المستعمرات والنفوذ فتصادمتا مع بريطانيا وفرنسا لكن حالة فرنسا الآن أكثر تعقيدًا، فالخطر الأساسي جاء من الشرق والجنوب.
دول الشرق والجنوب التي كانت مستعمرات، قويت وتطورت بمعدلات تنمية وتطور تكنولوجي أعلى بكثير من دول الغرب، حتى صارت دول غربية كفرنسا يتحدد دورها ومكانتها ونصيبها في الثروة، وفقًا لموازين قوى في عالم مختلف فرضته دول الشرق والجنوب.
هكذا انعكست دورة حركة التطور والتغيير فقد بدأت الظاهرة الاستعمارية بتحرك الغرب إلى الشرق والجنوب، إذ حمل المستعمر الغربي تقدمه الصناعي وسلعه، على ظهر قوته العسكرية المتفوقة وصار يحتل الدول الأقل تطورًا والأضعف عسكريًا ويستنزف ثرواتها ووصل حد استعباد البشر وإدخالهم باعتبارهم سلعًا في دورة التبادل التجاري فيما عرف بتجارة العبيد. حتى ظهرت حركات التحرير التي استفادت من حالة الضعف التي أصابت المستعمرين من جراء الدخول في حربين عالميتين، ومن ظهور وضع دولي جديد مشكل من قطبي الحرب الباردة المتنافسين والمتصارعين.
اضطر المستعمر لتغيير نمط احتلاله، فأصبح اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا أكثر منه عسكريًا، مع الإبقاء –طبعًا- على استخدام السلاح.
وبعد انتهاء الحرب الباردة حاولت الولايات المتحدة الفائزة في الحرب، أمركة العالم، بالقوة. وشنت حروبًا تركزت على العالم الإسلامي، وكانت النتيجة أن دولًا كانت مستعمرات سابقًا تطورت وتقدمت إنتاجيًا وعسكريًا وصارت تتحرك وتنافس الدول الإستعمارية على المصالح والدور والنفوذ في الدول التي لم تتطور مثلها. وهو ما تسبب بتراجع قوة الدول الغربية، بتراجع صادراتها ومعدلات نهبها للدول الأخرى.
والحالة الفرنسية أكبر شاهد على ذلك أكثر حتى من الولايات المتحدة.
لقد بدأت فرنسا بناء إمبراطوريتها الإستعمارية منتصف القرن الـ 16 وأتمت سيطرتها في القرن الـ 19 على نصف قارة إفريقيا تقريبًا. ووصل عدد قواعدها العسكرية في القارة إلى نحو 100 قاعدة..
ومع انطلاق حركة التحرير، لم تكن فرنسا استثناءً في تغيير نمط استعمارها، لكنها أصرت أيضًا على إرثها التقليدي وأعمال النهب المباشر، في الزمن الخطأ.
فاحتشدت عوامل التغيير الدولي ضدها وهو ما استثمرته قوى إفريقية مؤخرًا، إذ تتوالى أعمال طرد المستعمر الفرنسي المتوحش والمترهل والمتراجع في عوامل قوته أيضًا.
وهنا يثار سؤال: ما علاقة تراجع فرنسا خارجيًا، باضطراباتها الداخلية؟
هذا هو جوهر ما يحرص المستعمر الفرنسي على استبعاده من النقاش العام، فمشاكل فرنسا الداخلية ليست إلا انعكاسًا للظاهرة الاستعمارية المديدة لها.
فالاستعمار لم يكن ظاهرة نخبوية فقط. لقد مكنت حالة استنزاف أموال وثروات الشعوب الأخرى نخب الحكم من رشوة مجتمعاتها. وما عاشت فيه تلك المجتمعات، من وفرة ومن رفاه ليس ناتجًا عن جهد مجتمعاتها، بل ناتج أيضًا عن استنزاف أموال الشعوب الأخرى.
والحاصل الآن في فرنسا من اضطراب، هو نتاج تراجع قدرة الحكم والشركات والنخب على توفير ما كانت توفره من الرشى الإمبريالية للمجتمع.
والحاصل أيضًا أن الظاهرة الاستعمارية، كانت قد تجذرت داخل فرنسا، لاعتمادها نمط الاحتلال الاستيطاني، حتى أصبح 15 بالمائة من سكانها من مستعمراتها، ولحاجتها للأيدي العاملة سابقًا. والمجتمع الفرنسي لم يعد يرى ضرورة لوجودهم في ظرف يتراجع فيه اقتصاد فرنسا. ولذلك تتحرك الجماعات العنصرية والمتطرفة دينيًا، ضدهم. وكل ذلك يتجسد فيما يوصف بالسياسة الواقعية لماكرون.
كانت إفريقيا بؤرة استنزاف الأموال ورشوة المجتمع. لكن ما كان يتغير، بل يسارع التغيير لذلك قام ماكرون بـ18 زياره لإفريقيا منذ توليه الرئاسة عام 2017 وهو يقول دائمًا لشعبه يجب أن “نتواضع” في النظرة لإفريقيا
ولذلك، أعلن عن خفض الوجود العسكري في منطقة الساحل وجنوبي الصحراء. بل يتحدث ماكرون صراحة عن تراجع فرنسا على الأصعدة الاقتصادية والإستراتيجية لينبه شعبه أن ما كان لا يمكن أن يستمر.
والحاصل أن الشعب يقول لماكرون: إذن إدفعوا من الثروات المكدسة لكن ماكرون لا يريد وربما لا يستطيع لأنه إن واجه أباطرة المال… إنتهى.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى