أخبار الرافدين
طلعت رميح

الحركة الإستراتيجية الثانية لإعادة تقسيم السودان

تؤكد الأحداث الجارية في السودان منذ ما وصف بالثورة على البشير، أن هذا البلد يشهد نقلة وتسارعًا في الصراع الجاري منذ عام 2011، لتحقيق أهداف الحركة الإستراتيجية الثانية لتقسيم ما تبقى من السودان بعد نجاح الحركة الإستراتيجية الأولى بانفصال الجنوب.
فما جرى من انقلاب عسكري وحراك في الشوارع ومسار متطاول ومتعثر من المفاوضات تحت عنوان المدني والعسكري، أدارته أطراف دولية تحترف منع التوافق على أرضية وطنية، وصولًا إلى التقاتل بين الجيش وقوات الدعم السريع، ليس إلا تطويرًا لحركة الصراع الجارية منذ بداية معارك وتمردات دارفور، ولما جرى في شرقي السودان.
لقد دخل السودان الآن المرحلة الأخيرة من تحقيق أهداف الحركة الإستراتيجية الثانية للتفكيك، لتضاف نتائجها لما أنجزته الأولى، وإن لم تحدث مفاجأة كبرى فعلى الجميع الاستعداد للتعامل مع دول وجغرافيا جديدة ضمن ما كان يسمى بالسودان الشمالي.
وواقع الحال أن السودان لا يمكن فهم ما يجري فيه، من خلال متابعة أحداثه الداخلية فقط. هذا البلد صادر بحقه قرار بريطاني تاريخي تمدد اعتماده حتى أصبح ثابتًا من ثوابت الإستراتيجيات الدولية.
تقول القاعدة المعتمدة بشأن السودان إنه بلد، إن سمح له بالنمو والتطور والاستقرار بمساحته وجغرافيته وسكانه وثرواته الهائلة، تنقلب التوازنات الإستراتيجية في قارة إفريقيا والشرق الأوسط والقرن الإفريقي وأنه بلد قادر على التمدد بتأثيراته إلى داخل 7 دول إلى درجة تغيير هويتها الحالية بحكم دوره التاريخي باعتباره معبرً للهوية الإسلامية إلى قلب إفريقيا ولتمدد قبائله داخل تلك الدول في ظل عدم وجود حدود واضحة.
ووفقًا لتلك الرؤية، بدأت الحركة الإستراتيجية الأولى عام 1922 حين سنت بريطانيا قانون المناطق المقفلة، الذي منع تجار شمالي السودان من العيش في الجنوب، وقضى بمنع الانتقال بين مواطني الجنوب والشمال إلا بتصاريح من الإدارة البريطانية، كما منع التزاوج بين أبناء الجنوب والشمال، ووصل حد منع ارتداء الجنوبيين الجلباب والعمة السودانية البيضاء التي توحد مظهر أهل السودان.
ولقد تواصلت هذه الحركة الإستراتيجية الأولى، زمنًا طويلًا، وكان من أبرز محطاتها أن حركت بريطانيا الجنوبيين للتصويت على الوحدة مع الشمال قبل استقلال السودان “خلال اجتماعات مؤتمر الخريجين عام 1947” وكان الهدف تسهيل حدوث الانفصال عن مصر. لقد أصرت بريطانيا على الانفصال بين السودان ومصر خلال مفاوضات الجلاء عن مصر.
وبعد إقرار استقلال السودان، وقبل إعلانه وانعقاد أول جلسة للبرلمان السوداني مطلع عام 1956، دفعت بريطانيا جنودًا جنوبيين كانوا في الجيش الذي شكلته في السودان لبدء التمرد ضد الدولة السودانية “تمرد آب عام 1955″، قبل أن تولد الدولة رسميًا.
وتواصل التمرد من محطة لأخرى بدفع بريطاني، بل حتى كنسي، ووفق أدوار تنوعت حسب حالة الصراع الدولي، اذ نال تمرد الجنوب دعمًا من الاتحاد السوفيتي وكوبا والكيان الصهيوني وإثيوبيا وإريتريا وأوغندا وليبيا، وانتهى الأمر إلى فصل الجنوب عام 2011، تحت إشراف وقيادة أمريكية بريطانية لتبدأ الحركة الاستراتيجية الثانية من وقتها وحتى الآن.
كان عنوانها الأول تمرد واقتتال دارفور ونشوء حركات مسلحة توزع وجود قادتها بين الدول الغربية، وكان عنوانها الثاني تمدد الدور التفكيكي للحركة الشعبية الجنوبية في الشمال، وهي التي تحكم الجنوب بعد الانفصال، تحت عنوان الحركة الشعبية لتحرير السودان-فرع الشمال، وكان عنوانها الثالث، تمدد النشاط التفكيكي إلى شرقي السودان، إذ تولت الولايات المتحدة التي جلبت معها السويد والنرويج، أعمال تدريب قيادات من الشرق على إدارة المفاوضات، كما ورد في الرد الأمريكي على احتجاج حكومة البشير.
كانت تلك أعمالًا تمهيدية، لما رأيناه متسارعًا وواسع الظهور في الإعلام بعد إسقاط البشير وبدء الصراع في قلب الدولة. كان لازمًا أن تتطور الأحداث لإخراج أهم مؤسسات قوة الدولة من المعادلة. اقتضى تحقيق أهداف الحركة الإستراتيجية الأولى إنهاك الدولة، لكن التقسيم القادم سيجري في أراض تتعلق بشرعية وجود الدولة السودانية، ولذا بات مطلوبًا تحطيم القوات المسلحة.
ما يجري الآن في ثنائية البرهان- حميدتي، هو إنهاء الدور الوطني للقوة العسكرية السودانية لفتح المجال للتحرك عميقًا بالتفكيك داخل المجتمع السوداني. وما يجري جرى التحضير له منذ فترة. هو فخ نصب بهدف إزالة “سد القوة السودانية” من أمام تحضيرات جرت لسنوات طويلة. الآن بات مطلوبًا إنهاء دور الجيش وكل قوة عسكرية في البلاد حتى لا تقف في وجه التفكيك.
ولن يمر وقت طويل حتى يجري التحرك مباشرة لإعلان دولتين أولهما في دارفور والثانية في شرقي السودان.
وليس بخاف على أحد أن في البلاد 8 حركات مسلحة انفصالية كامنة الآن، فبعد إسقاط مركز الدولة وإنهاك الدعم السريع والجيش لبعضهما البعض، سيفتح الطريق أمام تلك الحركات واسعًا.
والأدهى والأمر أن وقائع الأحداث تشير إلى أن تلك الحركة الإستراتيجية الثانية، ستفضي إلى حركة إستراتيجية ثالثة، ستجري هذه المرة باتجاه تعديل حدود دول الجوار.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى