أخبار الرافدين
طلعت رميح

أشد ما أزعج الغرب من تجربة تركيا

لم يتمكن الغرب من المناورة هذه المرة لإخفاء عدائه الشامل للتجربة التركية وتحرك بعداء سافر. ظهر الأمر جليًا في التخلي عن الحيادية الشكلية لإعلامه الذي طالما ادعى الرصانة والحرص على اعتماد أنماط الإعلام الرمادي لا أبيض و لا أسود، لتلافي ردود الفعل الشعبية أو لامتلاك القدرة على خداع الشعوب. وظهر الأمر جليًا في تقارير أجهزة المخابرات الغربية الموجهة التي كانت تدفع بالتسريبات ليل نهار للتأثير على تصويت الناخبين الأتراك.
وفى التزام الصمت بشأن ادعاءات الخصوم الداخليين للتجربة التركية الحالية بشأن الحصول على وعود من الدول الغربية بمساعدات واستثمارات ضخمة إذا نجح هؤلاء الخصوم في الانتخابات.
حشد الغرب كل قواه ولم يترك أيًا من أوراق اللعب والخداع ومن أوراق الضغط السافر ووصل الأمر للتهديد المباشر، وإذ تركز الهجوم على رجب طيب أردوغان، فأن الأمر أبعد من كراهية الشخص، كما لم يكن حبًا في كمال كيليجدار أوغلو وشتات فرق المعارضة والأمر أبعد حتى من الخلاف بشأن السياسة الخارجية التركية. حيث تتعدد القرارات والتوجهات السياسية التي تزعج الغرب منذ تولي أردوغان قيادة تركيا وأشد ما يزعج الغرب الآن أنه أصبح في تركيا كتلة سياسية اجتماعية، أو كتلة إسلامية قومية متجذرة، وقادرة على حمل مشروع الاستقلال الحضاري، وعلى الصمود في مواجهة كل أشكال وأنواع الضغوط وقادرة على تجاوز تأثير الاختراقات الغربية داخل المجتمع والحياة السياسية التركية.
وأن هذا التغيير الحاسم في تاريخ تركيا، لم يحدث خارج السياق الديموقراطي، بل عبر آليات هذا النظام الذي يدعي الغرب اعتماده داخل دوله ويقيم الدنيا ولا يقعدها في الدفاع عنه في سياساته الخارجية، ويعتبره أحد أهم فعاليات تلميع صورته الحضارية أو تعظيم قدرات حركته في مجال القوة الناعمة.
أشد ما أزعج الغرب أن تجربة الاستقلال التركية، لم تجر وفق آليات فوقية يمكن عزلها ومواجهتها، كما حدث مع تجارب عربية ودول أخرى كثيرة، بل جرت وتجري بالاستناد إلى مفهوم الهوية والاستقلال الحضاري، المجتمعي والسياسي والاقتصادي والعسكري والأخير وصل إلى مستوى راق من التصنيع المتطور .
وهو ما يضع الغرب في وضع أسوأ إستراتيجيًا، بل على صعيد شامل في أية مواجهة مع تركيا.
لقد تعددت مواقف السياسة الخارجية التركية الرافضة للهيمنة الغربية في ظل حكم أردوغان أو حزب العدالة والتنمية، كما اعتمدت تركيا نمطًا اقتصاديًا لا يستجيب لما تفرضه الدول والمؤسسات الغربية، لكن الأخطر أن بنيت كل تلك السياسات على قاعدة التمايز الحضاري أو لنقل أنها جاءت مرتبطة بعملية تغيير مجتمعية مرتكنة لإحياء حضاري، وهو ما يمنحها استمرارية وقدرة على الصمود والديمومة وعلى تعزيز مسارها باطراد، خاصة أنها قد باتت إنموذجًا ملهمًا لكتله بشرية منتشرة في مختلف بقاع العالم، كانت ولا تزال واقعة تحت الهيمنة الغربية، إذ تمكن الغرب سابقًا من إجهاض كل تجاربها التي لم تخرج عن إطار الاستقلال السياسي النخبوي أو الفئوي وذلك يعني أن المواجهة الغربية مع تركيا بات يصعب حسمها لمصلحة الغرب سواءً باعتماد آليات الصراع عن بعد، أو من خلال ما هو جار في دول أخرى عبر التفكيك المجتمعي وإثارة الاضطراب والتقسيم.
كما أصبحت المواجهة العسكرية مع تركيا انتحارًا للغرب، لأن تركيا بلد مصنع للسلاح الحديث والمتفوق حتى على بعض الدول الغربية ذاتها .
لذلك كان سفور العداء الغربي إعلانًا بعدم القدرة على اللعب بالأدوات المعتادة، وكان منطقيًا أن ينعطف إلى حالة إحباط بعد ظهور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات.
الإحباط والسخط الغربي في أشد حالاته الآن، بعد ظهور مدى قدرة القيادة التركية على التخطيط وثبوت امتلاكها القدرة على الحركة والمناورة التي طالما افتقدها من أخذوا مواقف وقرارات مستقلة عن الغرب في تجارب سابقة.
لقد كان ممكنًا للغرب أن يحدث الغرب نفسه بأن الصبر الإستراتيجي قد يمكنه من تجاوز وإنهاء التجربة بعد رحيل أردوغان، عبر تحنيطها من خلال من يأتي بعد أردوغان.
وكان يمكن للغرب أن يراهن على تفكيك وحدة المجتمع وإحداث انقلاب عميق بأيد داخلية تتبنى فكرة التقسيم، وهي قوى حاضره فعليًا وعلى تعاون عميق وقوي مع الغرب، أو عبر آليات سياسية وثقافية.
لكن الغرب وجد نفسه في مواجهة مع كتلة مجتمعية سياسية قائمة على أساس الهوية في تحديد اتجاهاتها في المواجهة أو في طلب النهضة.
لكن الغرب لن يستسلم، ذلك أن خروج تركيا من عبودية الهيمنة الغربية يعنى تغييرًا خطيرًا في التوازن الدولي على صعيد النظام الدولي الذي شكله الغرب ويحافظ على استمراره بقوة وشراسة.
مواصلة تركيا مسيرة الاستقلال يعني أن تغييرًا حادًا في موازين القوى الدولية بات قيد التحقق في أشد المناطق تأثيرًا على استمرار الهيمنة الغربية. ولذلك فتركيا تعيش تجربة صراع لن تنتصر فيها بشكل حاسم إلا بتغيير الوضع الدولي.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى