أخبار الرافدين
محمد الجميلي

قمة جدة.. هل تطهر الجزار؟!

بين زمن وآخر يكتشف العرب أن لديهم شيئًا، كثيرًا ما يغيب ويطول غيابه، تُجرى له إفاقة محددة عند الضرورة، يدعى الجامعة العربية، وفي كل قمة تعقدها يتأكد الجميع أنها في واد، والأمة بشعوبها كلها في وادٍ آخر.
ومنذ أن تأسست جامعة الدول العربية عام 1945م، وعلى مدى عشرات القمم التي عقدها رؤساء الدول العربية، لم تثر قمة جدلًا بين الشعوب كما أثارته قمة جدة المنعقدة يوم الجمعة التاسع عشر من أيار الجاري، اللهم إلا ما حصل في قمة القاهرة في آب 1990م إثر اعتراض العقيد القذافي وآخرين على آلية التصويت على القرار المثير للجدل بين المجتمعين، والذي مرره الرئيس المصري حسني مبارك.
لقد كانت عودة رئيس النظام السوري لحضيرة الجامعة العربية ضربة موجعة لآمال الشعب السوري الذي ذبح من الوريد إلى الوريد على يد النظام وشبيحته والميليشيات التي استدعاها من إيران وأفغانستان والعراق ولبنان، ومن القصف الجوي الذي يحار الخبير العسكري في تحديد نوعه وجهته، طيران روسي أو تحالف عربي أو أمريكي إضافة لطيران النظام، حتى أحرق الأخضر واليابس وقتل الأبرياء بكل أنواع الأسلحة حتى التي يسمونها محرمة، وها هو الجزار يجلس على مقعد الجمهورية السورية يعطي دروسًا لمن حوله في الفكر والسياسة والتأريخ والأحضان، ويطمئن زملاءه العرب بأن لا خوف على عروبته إن نام في حضن إيراني أو روسي أو حضن آخر، فقلبه ينبض بالعروبة، قال ذلك بعظمة لسانه بلا خجل أو حياء، وأنى لأمثاله الحياء.
ويتساءل العرب عن جدوى إعادة هذا الجزار من تلك الأحضان إلى حضن جامعة أبي الغيط، بعد سنوات طوال كانت سياسة الجامعة المعلنة، تخليص الشعب السوري من هذا الطاغية سلمًا أو حربًا، كما قال وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل يوم ذاك، فما الذي تغير اليوم، ليُستقبل استقبال المنتصرين، ولترمى عليه ألقاب السيادة والفخامة من كل حدب وصوب، فهل جاؤوا به ليغسلوه بماء زمزم ابتغاء تطهيره، أم ليكرموه على تلك الجرائم الفضيعة بحق شعبه؛ إن يد جزار ذبح شعبه وشردهم في أصقاع الأرض، لن يطهرها كل بحار الدنيا ولا ماء زمزم، فهي ماء مباركة، ولا تكون بركتها في أعداء الإنسانية قتلة الشعوب.
فا‏لمبارك من باركه الله، والإنسان الحق من عمل لخير شعبه والبشرية، وأما الطغاة، فإلى مزابل التأريخ، وإن وشحتهم ألقاب السيادة والفخامة.
إن حضور الجزار بشار في قمة جامعة الدول العربية يعني بصورة مؤكدة؛ تبني الجامعة رسميًا لخيار الثورة المضادة، الذي بدأه زعماء دول عربية فرادى أو جماعات وبدعم خارجي، لإجهاض حلم الشعوب العربية بالتحرر من الاستبداد، وهذا دليل إضافي على أن الجامعة العربية، جامعة للحكام وللأنظمة، وليست للشعوب وآمالها وتطلعاتها، كما كان الهدف من تأسيسها، ويؤكد أيضا أن هذه الجامعة قد تودع منها، فلتعلم ذلك الشعوب المتطلعة للسيادة والاستقلال.
‏عقود من الزمن ولا شأن يشغل قمم الجامعة العربية سوى قضية فلسطين، فيها يتبارون بخطبهم، ويرعدون ويزبدون؛ أما اليوم فغالب أقطار العرب على جدول أعمالها؛ حرب في اليمن وكارثة في سوريا وأزمة مياه النيل تهدد مصر وحرب الحلفاء في السودان وأزمات لبنان وليبيا وتونس ولا أدري لم أغفلوا العراق، هل يرونه حرًا مستقلًا يتقلب شعبه في النعيم، فلا سجون ولا معتقلات يقبع فيها الأبرياء بسبب انتمائهم السني، ولا ملايين مهجرة في المنافي والفيافي، حيث مخيمات النزوح، ولا مليشيات تتحكم برقاب العراقيين وحاضرهم ومستقبلهم، ولا فساد ولا مخدرات ولا كوارث تفتك بالشعب المبتلى، أم تراهم صدقوا ما يقوله السوداني وإطاره، أم يرون أن المهمة التي عملوا عليها قد أنجزت، بتخريب العراق وإزاحته عن موقعه الريادي في الأمة؟!
نعم لقد حفلت غالب قضايا الأقطار العربية بفقرات من البيان الختامي لإعلان جدة، ولكنهم لم ينسوا فلسطين، مع أن غالب الذين في القاعة قد طبعوا مع الكيان الصهيوني علانية بعد السر، وحتى العجوز محمود عباس ما يسمى برئيس فلسطين يتحدث كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد، ولكنه في الواقع منفذ لسياسات الكيان الغاصب ولا علاقة له بفلسطين، إلا من جهة العقود والمقاولات والمليارات، فهي باب من أبواب الكسب والعيش كما الحال عند غيره، وعلى الرغم من كل القضايا الشائكة على جدول الأعمال فلم يتنازل المشاركون عن وصف قضية فلسطين بالقضية المركزية، ومبارك لفلسطين بهذا التميز المستمر!
‏ولكي تثبت لنا الجامعة العربية وقادتها استقلاليتهم، وأنهم الرقم الصعب في المعترك الدولي، جاؤوا بالرئيس الأوكراني زيلينسكي وخطب فيهم بلباسه العسكري، وذكّر العرب بأن بلده تصدر الحنطة لهم، وبأن أهل القرم المحتلة مسلمون، وبأن بلاده تتعرض لغزو روسي، وطالبهم بالمساعدة لتحريرها، ونسي فولوديمير بأن أبرز قرار قررته ونفذته قمم العرب هو قرار جلب الغزاة في قمة القاهرة 1990م والتمهيد لاحتلال العراق، ولله عاقبة الأمور.
ثمانية وسبعون عامًا على تأسيس جامعة الدول العربية، وقمم تتلوها قمم، ولا يأتي زمان على العرب إلا والذي بعده شر منه، ‏وما زالت القمم تتهاوى، جيلًا بعد جيل، وعقدًا بعد عقد، وعامًا بعد آخر، حتى باتت في الحضيض.
‏(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى