الحرب المتوقعة في قلب أوروبا!
لن تكون حربًا تحت السيطرة كما الحرب السابقة في يوغسلافيا. ولن تكون محدودة الأهداف والمعالم، كما كان الحال في حربي البلقان الأولى والثانية بين عامي 1912 و 1913.
ستكون حربًا مفتوحة على أهداف كبرى، لن تغير أوروبا وتعيد ترتيب العلاقات والتوازنات في داخلها فقط، بل ستحمل مؤشرات بالغة الدلالة على حدوث تغييرات في التوازنات والعلاقات الدولية.
وفي الأغلب ستجري تلك الحرب –إن اندلعت- خارج سياق التركيز الدولي الجاري حاليًا على حرب أوكرانيا وعلى التطورات الخطيرة بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان أو بحر الصين الجنوبي.
نقصد هنا الحرب التي تجمع الكثير من المؤشرات على اندلاعها في منطقة البلقان.
والبلقان من المناطق الرخوة في العالم، وهي دومًا في موضع التلقي والتفاعل مع التغييرات في التوازنات الدولية، عدا عن كونها مكونة من دول صغرى ليس من بينها دولة قادرة على ضبط مناسيب الصراع في إقليمها أو فرض سياسة توحيدية أو توازن مستقر. ومجتمعاتها تضج بالصراعات الإثنية والقومية والدينية، فتعيش دومًا صراعات داخلية شديدة الدموية بالارتباط مع تغيير التوازنات الدولية.
ودول البلقان المكونة من رومانيا وبلغاريا وصربيا ومقدونيا الشمالية وألبانيا واليونان والبوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو. جميعها على مرمى حجر من أوكرانيا ومن الأقاليم الروسية الخاصة في داخل أوروبا.
وقد شهدت تلك المنطقة ثلاثة حروب دموية خلال أقل من مائة عام، كانت جميعها نتيجة للتغيير في التوازنات الدولية.
جرت حرب البلقان الأولى والثانية بين عامي 1912 و 1913. في الحرب الأولى احتشدت المجموعات العسكرية من أربعة دول هي صربيا وبلغاريا واليونان والجبل الأسود، ضد الدولة العثمانية. وفي الحرب الثانية قاتلت بلغاريا ضد مقاتلي ذات الدول الأربع كما واجهت هجومًا مباغتًا من رومانيا في الشمال.
وكان الهدف إنهاء دور ووجود الدولة العثمانية في قلب أوروبا وهو ما تحقق فعليا. وجاءت الحرب العالمية الأولى لتكمل مسيرة إنهاء دور الدولة العثمانية في الشرق الأوسط كله.
وشهدت ذات المنطقة في تسعينات القرن الماضي، حرب تفكيك يوغسلافيا وإضعاف الوجود المجتمعي الذي خلفته الإمبراطورية العثمانية وإنهاء ما تبقى من نفوذ روسي “سوفيتي” في تلك الدولة التي كانت موحدة بسلطة الرئيس جوزيف بروز تيتو، بل في تلك المنطقة برمتها.
كانت حربًا مدارة ومتحكم فيها. ونتج عنها اضعاف البوسنة والهرسك وتأسيس صراع دائم في داخلها، ووضع كوسوفو تحت سيطرة حلف الأطلسي وجعلها في صدام دائم مع صربيا، سواء بعدم اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو أو عبر وجود أقلية صربية في داخلها. كما نتج عنها إضعاف الدور والنفوذ الروسي لدى الصرب.
لم تجر تلك الحرب في تقسيم يوغسلافيا إلا بعد انتهاء الحرب الباردة كجزء من مخلفاتها، وضمن خطط الولايات المتحدة لسيطرة وتمدد حلف الناتو في داخل أوروبا.
ولذا كان طبيعيًا أن يتولى حلف الأطلسي المهام العسكرية في إعادة رسم الخرائط الجديدة. والأهم من كل ذلك، ما شهدته تلك الحرب كسابقة لشن الحروب بذرائع إنسانية أو لمواجهة وفرض النظام أو تحديد معالم الدول وتشكيلاتها الداخلية.
والآن تبدو المنطقة في طريقها لحرب جديدة. فقد تابع العالم في الفترة الأخيرة تصاعدًا للصراع في داخل كوسوفو، تبعه إعلان صربيا عن حشد قواتها على الحدود تضامنًا مع الأقلية الصربية في كوسوفو، وقد ظهر جليًا استناد صربيا على روسيا في تلك الإجراءات.
كما تظهر وقائع الحياة السياسية في البوسنة والهرسك أن البلاد في طريقها لأزمة داخلية خطرة جراء فرض قوانين جديدة لتنظيم الحياة السياسية، ووصل الحال حد الحديث عن نهاية إتفاق دايتون الذى أنهى الحرب السابقه.
وفي بلغاريا يعلو النقاش حول هوية البلاد، إثر ظهور انقسامات حول الارتباط بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة، والقرب التاريخي من روسيا، أو ما يوصف في البلاد بشعور الأخوة مع روسيا في حربها على أوكرانيا.
وعلى صعيد العلاقات بين بلغاريا ومقدونيا الشمالية، فالتطورات تشير إلى قرب تفجر صراع بسبب استمرار مقدونيا في عدم الاعتراف بالحقوق التاريخية للأقلية البلغارية في داخلها. وفي ذلك لم تنجح الوساطة الفرنسية.
وهكذا تعد المنطقة دولها للدخول في توترات داخلية متصاعدة لا يمكن فصلها عن الصراعات الجارية بين روسيا وحلف الناتو وأوروبا حول أوكرانيا.
ويمكن اختصار المشهد الجيوسياسي بمفردة “الترقب” عندما تبدو دول البلقان في انتظار شرر النار من معارك أوكرانيا.