أخبار الرافدين
طلعت رميح

ورطة كيسنجر!

بعد 50 عاما من زيارته الأولى للصين، وخلال الزيارة وهو في المائة من عمره لهذا البلد، عاد هنري كيسنجر ليفتح باب التفاوض والحوار بين الصين والولايات المتحدة، فبدا وكأنه يعود ليبدأ من حيث بدأ خلال زيارته الأولى للصين في عام 1971. لكن الواقع يقول، إنه في مواجهة حاله أعقد وأشد اختلافا في هذه المرة، إذ الدولة التي كان قد نجح في استمالتها إلى جانب بلاده، لعزل ومحاصرة روسيا حين كانت ترتدي معطف الاتحاد السوفيتي، هي ذاتها من صارت ندا للولايات المتحدة ومزاحما لها ومهددا للنظام الدولي الذي تهيمن عليه. والأخطر أن الرجل دشن زيارته الحالية فيما الصين وروسيا قد عادا إلى نمط أقرب للتحالف الشامل في مواجهة الولايات المتحدة. وهو ما يجعل الرجل في موضع من يعيد دفع الصخرة مجددا لتتدحرج وتعود لنفس النقطة السابقة.
وإذ لم يتضح بصفة رسمية، ما إذا كان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، قد ذهب للصين استجابة لدعوه من القيادة الصينية، أم أن الإدارة الأمريكية هي من طلبت منه القيام بالزيارة، فالغالب على الكتابات والتحليلات، أن الرجل في مهمة إستكشافية متوافق عليها من الطرفين، لوقف التصعيد الجاري بينهما.
فإن كان كيسنجر، قد وصل للصين بمبادرة من قيادتها، فالأغلب أننا أمام محاولة صينية للتذكير بسابق الأسس التي قامت عليها العلاقات مع الولايات المتحدة. وأمام محاولة صينية للتأثير على الرأي العام الأمريكي عبر بدء نقاش علني هادئ يقلل من آثار التعبئة الناتجة عن التنافس والصراع الجاري بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي مع بدء فعاليات الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وإن الصين تستهدف الظهور بمظهر الحريص على التمسك بالمبادئ والتوافقات التي كان كيسنجر هو من قام بهندستها.
وإن كانت الإدارة الأمريكية هي من تقف خلف الزيارة، فالأغلب أن استغلال الصين للانغماس الأمريكي في الحرب الأوكرانية للضغط في قضية تايوان، وتصعيد تحركاتها العسكرية إلى حد الاحتكاك بالطائرات والقطع البحرية الأمريكية قرب سواحل وأجواء الصين، وقيام جيشها بإجراء مناورات عسكرية بشكل منهجي ومتواصل مع الجيش الروسي، وردها بندية على العقوبات الأمريكية، كلها عوامل دفعت الإدارة الأمريكية للطلب من كيسنجر، الذهاب للصين بقصد التهدئة في هذه المرحلة التي تشهد تزايدا لمظاهر التفلت والخروج عن قبضة الولايات المتحدة على النظام الدولي.
لكن رجلا في وزن وخبرة وعمر كيسنجر، لا يستدعى ليقوم بأدوار تتعلق برسم السياسات وإدارة المواقف الجارية أو حتى المرحلية، إذ هو بخبرته المديدة ووضعه المرجعي لا يستدعى إلا للعب دور يتعلق برسم التوجهات الإستراتيجية الكلية وبرسم ملامح للنظام الدولي الجديد الذي هو عنوان الصراع الدولي الراهن.
وفي ذلك يمكن القول بأن كيسنجر في ورطه حقيقية.
كيسنجر هو شاهد تاريخي على التبدلات الإستراتيجية في الوضع الدولي، إذ الرجل هو صاحب الدور الأهم في حدوث أحد أهم التغييرات في موازين القوى خلال الحرب الباردة ودون طلقة رصاص واحدة.
كان كيسنجر قد تمكن خلال زيارته الأولى “السرية” للصين في عام 1971 من فصل المسارين السوفيتي والصيني وتغيير نمط العلاقات بينهما من الخلاف للعداء، كما تمكن وقتها من تغيير اتجاه حركة العلاقات الأمريكية الصينية من العداء للتحالف. وهو ما مثل تغييرا حاسما في التوازنات الدولية امتدت آثاره حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.
وها هو يعود للصين، بعدما عادت العلاقات الصينية الروسية إلى نمط من التحالف الإستراتيجي مجددا وبأشكال أقوى مما كانت عليه في زمن الاتحاد السوفيتي، وبعد أن أصبحت الصين في حالة صراع عدائي مع الولايات المتحدة، إلى درجة باتت تهدد باندلاع حرب عالمية.
لكن ورطة كيسنجر ليست هنا فقط.
ورطة كيسنجر أنه ذهب للتفاوض والحوار مع الصين في هذه المرة، وهو الذي طالما ناشد الغرب، أو حرضه، بأن لا يواصل الضغط على روسيا في حرب أوكرانيا حتى لا تتحالف مع الصين أو ترتمي بأحضانها حسب تعبيره. ووصل به الحال أن شدد على ضرورة القبول بتسويات لمصلحة روسيا وعلى حساب الأراضي الأوكرانية، حتى لا يتحقق للصين هدف الهيمنة على روسيا.
ولذلك فالأغلب أن كيسنجر ذاهب للصين لحوار أمريكي صيني حول قضايا أكبر وأبعد أثر.
بالإمكان توقع أن يكون كيسنجر، قد ذهب للصين لممارسة نفس لعبة فصل المسارات بين الصين وروسيا وإن بطريقة مختلفة هذه المرة. ويمكن القول بأنه قد يكون في رحله لاستكشاف إمكانية إجراء مقايضة بين موقف الصين من الحرب الأوكرانية وكوريا الشمالية، وموقف الولايات المتحدة من تايوان.
وبالإمكان توقع أن تكون قد شملت الزيارة استكشاف إمكانية إجراء مقايضات بين الصين والولايات المتحدة، حول قضايا دولية متعددة اقتصادية وسياسية وعسكرية على حساب الأطراف الدولية الأخرى.
لكن المؤكد، أن كيسنجر ذهب إلى الصين لبدء نقاش أمريكي صيني حول النظام الدولي الجديد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى