الشركات النفطية تعمق من أزمة الجفاف جنوبي العراق
اتهامات للحكومة بعدم إلزام الشركات النفطية بشروط جزائية ملزمة لحماية البيئة من عمليات حقن التربة بالمياه العذبة وتأثير تدوير هذه المياه واستخدامها من قبل السكان.
البصرة – الرافدين
حمل ناشطون بيئيون وخبراء في مجال استخراج النفط وزارة النفط في حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني مسؤولية التبعات البيئية الخطيرة لاستمرار حقن المياه العذبة في باطن الأرض لاستخراج النفط فضلًا عن تغاضيها على تمدد الشركات النفطية على حساب الأراضي التي يضربها الجفاف في الأهوار.
وشكك الناشطون والخبراء بمزاعم وزارة النفط الحالية في التوجه لاستخدام مياه البحر المالحة في عمليات الحقن بعد عقدين على فشل الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال في تفعيل هذا الموضوع أسوة بدول الخليج العربي النفطية وعجزها عن فرض شروط تلزم شركات النفط الأجنبية بالاعتماد على مياه البحر بدلًا من المياه العذبة.
ويهدر العراق يوميًا مليارات اللترات من المياه العذبة خلال عمليات حفر واستخراج النفط، عبر عملية “الحقن”، فيما تشكل المياه المستخدمة نسبة كبيرة من الحصص المائية للمناطق المنتجة للنفط.
وكجزء من عمليات الاستخراج النفطي، يتم حقن آبار النفط بالمياه للحفاظ على التوازن ودفع النفط الخام إلى أعلى نقطة ممكنة داخل الآبار.
ويتم حفر آبار حقن المياه بين آبار النفط في البصرة الغنية بالنفط، وفي حال وجود 4 آبار نفط تحفر بئر واحدة للحقن، على مسافة متساوية عن الآبار الأربعة.
ومع مرور الوقت، يتوجب زيادة كميات المياه المحقونة في الآبار، وفقاً لعمر البئر النفطية.
وعدا الآبار فإن المصدر الآخر هو مياه نهر دجلة، إلى الشمال قليلاً من مصبه في شط العرب.
ويرى الخبير بشؤون المياه علاء البدران، أن “الحقول النفطية في البصرة لوحدها، تستهلك 7 أمتار مكعبة من المياه في الثانية الواحدة”.
وعلى أساس هذه المعادلة، تستهلك البصرة نحو 6.5 بالمائة من حصتها الكلية من المياه لأغراض الحقن النفطي إذ تبلغ حصة البصرة من المياه، بحسب التقسيمات الحكومية، 60 مترًا مكعبًا من المياه في كل ثانية تأتي من نهر دجلة.
وأضاف البدران، أن “هذه الكميات التي تذهب إلى القطاع النفطي كبيرة مقارنة بحصة البصرة من المياه العذبة، وفقًا للتقسيمات الحكومية”.
وبحسب أرقام هيئة حقول الرميلة، شمالي البصرة، التي تضم أكثر من 630 بئرًا نفطية، فإن معدل حقن الماء بلغ العام الماضي نحو مليون ونصف المليون برميل يوميًا، أي ما يعادل 223 ألف متر مكعب في اليوم، مقابل إنتاج نحو مليون برميل نفط يوميًا، وهو ما يؤكد التقديرات التي تشير إلى أن حقول البصرة تستهلك نحو 7 أمتار مكعبة من الماء في الثانية.
ويهدد تمدد اللسان الملحي القادم من البحر مياه شط العرب والمياه العذبة التي تصب فيه بمدينة البصرة، منذ سنوات، والذي وصل العام الماضي إلى نحو 5 أميال بحرية في عمق شط العرب تزامنًا مع التحذيرات من استنزاف المياه الشحيحة في عمليات الحقن في آبار النفط.
ويعلق الخبير والمستشار الدولي بقطاع الطاقة روبرت ميلز، بالقول إن شركات النفط العاملة في “البصرة، التي تعاني من مشاكل عصيبة بالمياه، يتطلب منها أن تبحث عن بدائل للحصول على مياه لتغطية إنتاجها النفطي”.
ولفت إلى أن “كميات المياه المطلوبة لحقنها داخل الأرض هي ليست بضخمة، ولكن في مناطق تكون فيها كميات المياه قليلة، فإن ذلك قد يولد مشاكل”.
وأشار إلى أن “البديل موجود، وأن العراق كان على مدى عقد من السنين يتباحث في موضوع تنفيذ مشروع سحب مياه من البحر، ولكن لم يتحقق شيء لحد الآن”.
وقال “وزارة النفط ليست لديها ميزانية كافية، وأن شركات النفط لا تريد أن تستثمر وتضع أموالها في هكذا مشروع”.
وتوقف مشروع كبير لمعالجة مياه البحر، كان ضروريًا لزيادة الإنتاج في حقول النفط الجنوبية من خلال حقن المياه، لأكثر من عقد بسبب الخلاف على الشروط قبل أن يتم توقيعه منتصف شهر تموز الجاري مع شركة توتال الفرنسية.
وشكك خبراء في جدوى هذا العقد والفرص الاستثمارية التي وقعها وزير النفط الحالي حيان عبد الغني خلال شهر تموز والتي لن تظهر نتائجها الملموسة على المدى القريب في ظل تفاقم أزمة الجفاف.
وقال نائب رئيس شركة ريستاد لأبحاث أنشطة المنبع في الشرق الأوسط أديتيا ساراسوات، إن انتهاء شركة توتال من تنفيذ ما جاء في العقد قبل عام 2027 غير مرجح.
وأضاف إن وزير النفط الحالي حتى لو تمكن من العثور على شركات مهتمة بمشروعات زيادة إنتاج النفط وتأسيس البنية التحتية اللازمة فإن إمكانات التكرير في العراق تسمح فقط بزيادة الإنتاج 500 ألف برميل يوميًا من الخام وسيستغرق ذلك وقتًا.
ويحذر خبراء في مجال البيئة من تبعات تدوير المياه المحقونة في الآبار النفطية بعد أن تختلط بمواد وتركيبات مضرة بصحة السكان الذين يستخدمونها مرة أخرى.
وعلى عكس ما يحدث في الدول النفطية الأُخرى، لا تلتزم الشركات النفطية في العراق بما يتوجب عليها لحماية البيئة والإنسان إذ ينصب همها على تحقيق الأرباح العالية وفقًا للخبراء.
ويوضح مدير المركز العالمي للدراسات التنموية، الدكتور صادق الركابي، أن “الأمر الأكبر خطورة، هو أن المياه التي تستقطع من المواطنين لتحقن في حقول النفط، تُمزج بمواد كيماوية لمنع الترسبات وتسهيل عملية ضخ النفط، وعندما يعاد تدويرها تتسرب إلى التربة وتختلط بالمياه الجوفية، ما يؤدي إلى انتشار أمراض في تلك المناطق، سرطانية وتنفسية، بسبب تسرب الغازات إلى الهواء”.
وحمّل الركابي الحكومة التي أبرمت العقود مع هذه الشركات دون مراعاة للظروف البيئية، ودون شروط جزائية تلزم الشركات بالمعطيات التي تتناسب مع المسؤوليات الاجتماعية للحكومة في تلك المناطق.
وقال إن “وزارة النفط مسؤولة عن مراقبة نشاطات الشركات النفطية وأن شركات النفط متعاقدة مع شركات كبرى للمحاماة، ويحتاج العراق إلى فريق قانوني قادر على استحصال حقوق البلاد والمواطنين المتضررين من نشاطات هذه الشركات، إذا فكر بالفعل في مقاضاتها”.
ويرى ناشطون أن “ما آلت إليه الأوضاع، هو نتيجة طبيعية لإبرام العقود بلا شروط جزائية تلزم هذه الشركات باحترام البيئة والإنسان، وحماية ملايين الناس من مخاطر التلوث”.
ويتفق الناشط في مجال البيئة أحمد صالح نعمة، مع ما ذهب إليه الركابي، في شأن تحميل وزارتي النفط والبيئة مسؤولية هذه الكوارث، وأن “المفاوض العراقي في فترة جولات التراخيص، لم يفرض الشروط التي من شأنها أن تضع العراق على منصة الراحة من ناحية الأمن المائي والأمن البيئي، باستثناء بند واحد مع إحدى الشركات النفطية العاملة في محافظة ميسان، يتعلق بالانبعاثات الغازية الكربونية، وهذا الشرط غير مفعل أيضا”.
وطالب بتعويض المتضررين من نشاطات الشركات النفطية”، مؤكداً أن “بيئتنا لا تتحمل المزيد من الصدمات.
وخلال العقد الماضي، استحوذ العراق على 20 بالمائة من النمو في إمدادات النفط العالمية، لينتعش الإنتاج من 2.3 مليون برميل يوميًا في عام 2009 إلى حوالي 4.7 مليون برميل حاليًا، وقد يرتفع هذا الرقم إلى 6 ملايين برميل بحلول عام 2030 إذا تمكن العراق من حل أزمة المياه.
وبينت وكالة الطاقة الدولية في تقرير سابق لها أن “الوصول إلى مستويات الإنتاج المتوقعة، سيحتاج العراق إلى 3 ملايين برميل إضافية من المياه يوميًا لضخها في آبار النفط”.
وتستهلك الصناعة بالفعل 5 ملايين برميل من المياه يوميًا لضمان وجود ما يكفي من الضغط في الآبار لاستخراج النفط، ويحتاج كل برميل من النفط إلى نحو 1.5 برميل من المياه.
ويعتمد العراق على الواردات من الدول المجاورة بنسبة 70 بالمائة من المياه التي يستهلكها، بعدما انخفضت مستويات الأنهار بنسبة تصل إلى 40 بالمائة في الـ20 سنة الماضية.
وأضاف تقرير وكالة الطاقة الدولية أن “المياه المتاحة آخذة في التراجع، ما يمثل عائق لإمدادات المياه السطحية والجوفية، كما أن تدفقات الأنهار المنخفضة سمحت لمياه البحر بالتوغل ما زاد من ملوحة المياه العذبة”.
وكانت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية التي وثقت أزمة المياه في العراق بشكل جدي عام 2012 قد بينت أن احتياجات المياه في البلاد بسبب استخراج النفط تزايدت إلى عشرة أضعاف، ورأت أنه من الضروري أن تعمل السلطات الحكومية في البلاد على إيجاد البدائل.
وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقتها المؤسسات الصحية، أدت الأزمة الحادة للمياه في جنوب العراق عام 2018 إلى نقل أكثر من 118 ألف شخص إلى المستشفيات، واندلاع انتفاضة شعبية في بعض مدن الجنوب العراقي احتجاجًا على سوء الخدمات وتفشي الأمراض والفساد في المؤسسات الصحية، لاسيما مدينة البصرة بعد أن تجاهلت السلطات تحذيراتها من تبعات مخاطر الجفاف قبل 6 أعوام من تلك الانتفاضة.
وفي منطقة الأهوار المحاذية للبصرة يدفع السكان ثمن جفاف وتجفيف مسطحات الأهوار المائية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، والتي تراجعت مساحتها بشدة وفقدت أنواعًا نادرة من الطيور والحيوانات وهجر أهلها بسبب تسميم بيئتهم على يد شركات النفط.
ويؤكد أستاذ الجغرافية الطبيعية في جامعة الكرخ للعلوم الدكتور فاروق الزيدي استهداف عمليات التنقيب النفطية 40 بالمائة من المساحة الكلية للأهوار.
وبين أستاذ الجغرافية الطبيعية أن عمليات الاستكشاف التي تجري على مقربة من الأهوار، وفي حال تبعها استخراج وحفر الآبار سوف تسفر قطعًا عن تلوث هذه المناطق بمخلفات سامة، ولا يمكن أن تكون تلك المنطقة صالحة للعيش أو الزراعة بعد ذلك.
وأضاف أن “عمليات التنقيب عن النفط وفتح الطرق ضمن مناطق الأهوار وأي نشاط بشري آخر يجب دراسته علميًا بكيفية الدخول إلى هذه البيئة من دون التأثير على الكائنات التي تعيش في الأهوار، حيوانية كانت أم بشرية وأن الأهوار من البيئات الطبيعية ولها نظام مبني على عناصر طبيعية لا يمكن اختراقها أو التدخل فيها خوفًا من حصول تغيرات فجائية في هذا النظام”.