أخبار الرافدين
تقارير الرافدينحكومات الفساد في العراق

مرضى التوحد يعانون الأمرين جراء إهمال الحكومة وتسلط غير المختصين

عيادات خاصة وأطباء غير متخصصين يتلاعبون بحياة وسلامة الأطفال المصابين بطيف التوحد في ظل إهمال حكومي لهذه الشريحة التي "تقاتل" عائلاتها من أجل إنقاذها.

بغداد – الرافدين
يعيش الأطفال المصابون بأعراض طيف التوحد في العراق وضعًا يوصف بـ “الكارثي” جراء الإصابة بهذا المرض مع قلة الملاكات الصحية المتخصصة بالتعامل معه فضلًا عن انعدام الخدمات والرعاية الصحية التي تتناسب ووضعهم فيما تعاني أسرهم من “مشاكل مركبة” في رحلتهم المريرة بحثًا عن العلاج.
وتؤكد تقارير ارتفاع أعداد المصابين بهذا المرض على مستوى العراق في وقت لا توجد فيه أرقام رسمية بشأن أعدادهم لكن تقديرات تظهر أن هناك عشرات الآلاف منهم في كل محافظة، في حين تفتقد غالبية المحافظات مراكز تأهيل حكومية متخصصة، وهذا يعقّد من فرص تأهيلهم في ظل غياب الوعي المجتمعي بكيفية التعامل معهم.
ولا يتوفر لدى وزارة الصحة في العراق، إحصاءات ونسب محددة أو تقريبية عن أعداد أطفال التوحد في البلاد، حتى الآن، بحسب بيانات رسمية للوزارة.
ويرجح متخصصون عدم وجود إحصائية دقيقة لأعداد الأطفال المصابين بمرض التوحد، إلى عدم وجود بيانات متكاملة وعدم تسجيل جميع الحالات في مراكز التوحد الحكومية والأهلية على حد سواء، لكن انتشار معاهد ومراكز أهلية متخصصة في علاج هذا الاضطراب في مختلف أنحاء البلد، يدلل على وجود أعداد كبيرة من المصابين، ويؤشر في المقابل تقصيرًا حكوميًا في رعاية هذه الشريحة.
وتختصر السيدة أم لانا معاناتها اليومية مع طفلتها البالغة من العمر تسع أعوام، والتي تعاني من فرط شديد في الحركة منذ عامها الأول بجملة “لم أعد أحتمل”.
ووفق الأم، فإن “الطفلة تعاني أيضًا من قلة الانتباه بشكل مفرط، وصعوبة النوم وعدم الخوف من النار”، فيما تشكو من “صعوبات متعددة تبدأ من مرحلة التشخيص مرورًا بمراحل العلاج والتأهيل شبه المستحيلة نتيجة لغياب الخدمات الصحية والتأهيلية المنتظر تلقيها من الجهات الحكومية، وليس انتهاءًا بصعوبة دمجها في المجتمع”.
وتوضح الأم التي كانت تعمل موظفة حكومية انها اضطرت لترك عملها والمكوث في المنزل بسبب أبنتها، جراء حركتها الشديدة وتخوف العائلة من ترك الطفلة في عهدة قريب لهم.
وتعرّف منظمة الصحة العالمية مرض التوحد، الذي صُنّف كمرض منفصل عن الفصام في 1980، على أنه “مجموعة من الاعتلالات المتنوعة التي تتصف ببعض الصعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل، وصعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر والاستغراق في التفاصيل وردود الفعل غير الاعتيادية”.
ووفقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن 1 بالمائة من الأطفال في العالم مصابون بالتوحد، وهو يصيب الذكور أربعة أضعاف ما يصيب الإناث، وهناك من يسقط هذه النسبة على أطفال العراق ليحصروا أعداد المصابين بالتوحد فيه بما يقرب من 200 ألف طفل بالاستناد الى توقعات وزارة التخطيط لسنة 2023، وهي نسب تقديرية لاتستند إلى أي أدلة واقعية تعززها دراسات ميدانية وإحصاءات رصينة، وهي تجافي الحقيقة من خلال عرض رقم قليل جدًا لايمثل المصابين بهذا المرض.
ولا يوجد في بغداد، التي تضم أكبر كثافة سكانية في العراق ويسكنها 9 ملايين شخص، إلا مركز حكومي واحد لعلاج مرضى التوحد، ما يضطر العائلات إلى التوّجه إلى مراكز خاصة ذات تكاليف علاج باهظة من أجل الحصول على الرعاية والتدريب.

أطباء من غير أهل الاختصاص يبيعون الوهم لعائلات الأطفال المصابين بالتوحد مقابل تكاليف باهظة

وبحسب وزارة الصحة فإن التخصصات المرخص لها افتتاح عيادات خاصة بالتوحد ثلاث فقط وهي تخصص الأعصاب وطب الأطفال والطب النفسي بينما يوجد في بغداد وحدها 146 مركزًا وعيادة خاصة للتوحد، 26 منها فقط مجازة أما الأخرى فيديرها أطباء قرروا تحويل تخصصات شهاداتهم، لتخصصات مرخصة بتشخيص التوحد وسط حديث عن ارتكابهم اخطاء تهدد سلامة وأرواح المرضى.
وتروي السيدة مناهل التي وجدت في صفحة أحد الدكاترة على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك مئات التعليقات من آباء فرحين بإنجاز غير مسبوق يتمثل بإيجاد علاج للتوحد؛ تجربتها حينما توجهت لعيادة هذا الدكتور.
وأضافت السيدة وهي والدة لطفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات ويعاني من أعراض التوحد “لقد تعرضت لصدمة كبيرة حين رفضت السكرتيرة دخولي لمقابلة الطبيب، قبل أخذ تعهد خطي بالكتابة في صفحة الدكتور على “فيسبوك” مديحًا مطولًا، والاشتراك في صفحته العامة.
وتساءلت مناهل “بعد تحسن ابني أليس كذلك؟” فصرخت السكرتيرة بوجهها “فور خروجك من العيادة”.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ دفعت الأم رشوة للسكرتيرة لتسريع دخولها إلى الطبيب، وحارس باب الطبيب، وبدلاً من دفع 38 دولارًا للكشف تخطى ذلك 150 دولارًا كرشوة لطاقم الطبيب”.
وبينت أن الطبيب أخبرها بأن ابنها يعاني من توحد شديد وأن رحلة علاجه تتطلب 12 مرحلة بعد تشخيصه من خلال مد عصا خشبية في فمه فقط.
وأوضحت أن كل مرحلة كانت تتطلب تحاليل جديدة وأدوية جديدة وأموالاً جديدة وأن معدل ما صرفته مع هذا الطبيب وحده بأربعة أشهر كان أكثر من 7 ملايين دينار (4 آلاف دولار) بعد أن أنفقت كل ما أملك، ولم يكن لديَّ مانع من الاستدانة.
وقالت إنني “لم ألاحظ تحسنًا، على حالة ابني الذي كان ينام فقط ورحت أقرأ عن الأدوية التي يمنحني إياها الطبيب، ولم تكن سوى منومات حين أوقفها يصاب ابني بنوبات هلع ويشير بيده إلى وجع في قلبه ومعدته ويصرخ بعد إصابته بتقرحات شديدة بمعدته بسبب كثرة الأدوية”.
وأضافت مناهل “لكنني ما إن قررت شرح تدهور صحة ابني للدكتور، حتى صرخ بوجهي وطلب مني الخروج قائلاً “أنت أم غبية، من الطبيعي أن ينتكس ثم يصبح بخير، هذا دليل نجاح العلاج”.
وحاولت الأم، تحذير الناس وكتابة تجربتها في صفحة الطبيب في مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أنه يمتص جيوب العائلات بفترات علاج طويلة جدًا، لكنها تعرضت إلى الهجوم والتهديد من قبل أشخاص تبين أنهم مندوبون، تشترى ذممهم لكتابة تعليقات كهذه، أو آباء تعرضوا لنفس الابتزاز من قبل السكرتيرة.

اتهامات تلاحق مراكز التوحد الأهلية في العراق لانعدام الخبرات اللازمة في التعامل العلمي مع المصابين بطيف التوحد

ويرجع مختصون السبب الرئيس للإصابة بمرض التوحد إلى “أسباب جينية (وراثية)، إذ يؤدي هذا الخلل الوظيفي إلى اختلاف تشابك الخلايا العصبية في الدماغ وبالتالي رسم خرائط جديدة وطريقة تفكير مختلفة لدى الشخص المصاب بالتوحد عن أقرانه غير المصابين.
وتوصلت دراسات إلى “وجود ما يزيد على 100 جين يسبب الإصابة بالتوحد، لكن حتى الآن لا توجد رؤية واضحة عن تلك المسببات نتيجة لكثرتها واختلاف تأثيرها”.
ويوضح استشاري علم النفس الإكلينيكي وعلوم العلاج النفسي والعصبي الدكتور عادل الصالحي، أن “الدراسات العلمية المعاصرة أثبتت أن التوحد جيني تكويني يولد مع الطفل، تظهر أعراضه خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره وهو غير مكتسب ويؤسفني أن بعض الأطباء يتغذون على يأس العائلات، وإيهامهم بإيجاد علاج كلي وشاف للتوحد بالعقاقير”.
ويوضح الصالحي أن جميع الأدوية التي تمنح للأطفال تتلاعب بموصلات المخ وعند تلفها لا يمكن إعادتها أو إصلاحها مطلقًا.
ويبين أستاذ مادة تشريح التوحد في الجامعات العراقية أن “ما يحدث أن جمع عشرات الأدوية في معدة طفل يبلغ من العمر أربع سنوات أو حتى أقل من سنتين، يعطي في العادة نتائج معاكسة وتأثيرات سلبية ليس للدماغ فقط، بل لكل وظائف وأعضاء الجسم”.
ويستطرد الصالحي وهو أحد العلماء المتخصصين في اكتشاف بصمة التوحد في الدماغ، أن الأطباء غير المرخصين لا يعلمون أن بعض الأدوية لو اجتمعت معًا فمن الممكن أن تسبب تأثيرات جانبية كارثية، وهذه من نتائج عمل أصحاب تخصصات غير مخولين لتشخيص التوحد.
ويشرح أستاذ مادة تشريح التوحد “عند إجراء التخطيط الكهربائي EEG لدماغ طفل التوحد، يعطينا أحيانًا مؤشرات وقراءات، قد تكون شبيهة بالمؤشرات الخاصة بالصرع أو التشنجات العصبية (الشمرات Convulsive)، وهي قراءات تعد جزءًا من بصمات التوحد في الدماغ المثبتة علميًا وليست كونها تشير إلى حالات الصرع مطلقًا”.
ويخلص الصالحي وهو أيضًا رئيس الجمعية العراقية للعلاج النفسي بالقول إن “بعض الأطباء لا يملكون الاختصاص ضمن هذا المجال لمعرفة هذه المعلومة، عندها يصفون أدوية وعقاقير تصرف للذين يعانون الصرع أو الذهان، ولا يمنحون الأهالي أي تنبيهات أو إرشادات بنوع الأكل المرافق لهذه الأدوية مثلاً، أو ماهية التفاعلات Interactions مع بعض الأغذية أو العقاقير الأخرى التي قد يتناولها الطفل، حتى يأخذ الأهل الحيطة والحذر ضمن الكورس العلاجي الخاص بتلك العقاقير”.
بدورها توضح الصيدلانية مها أحمد أن أطفال التوحد وبالوضع الطبيعي يعانون مشكلات معوية ومعدية، ولا يستفسر الأطباء من الأبوين عن طبيعة غذاء ابنهما وما يحتاج إليه، وهل يتناسب مع اختلاط عدة أدوية، لذلك تحصل كثير من المضاعفات.
وتقول إن “هذه العقاقير تجعل الصغار مخدرين كليًا أول أسبوعين، فيعتقد الأب أن ابنه بات بخير، بعد ذلك تنتكس حالته الصحية ويصبح – بصورة مضاعفة – منفصلًا عن محيطه”.
وتضيف الصيدلانية “كثير من الأطباء يصفون التيكرتول والكارباميزابين، وهما دواءان يستخدمان في المقام الأول لمرض الصرع وآلام الأعصاب والتشنجات العصبية، لأطفال من الممكن أن يكونوا غير مصابين بالصرع، أو حتى التوحد، مما يسبب مشكلات بالرؤية وفقدان الشهية وعدم انتظام دقات القلب (الخفقان)، إضافة إلى تداخلات طبية كبيرة منها الحساسية والطفح الجلدي، والتسمم في بعض الأحيان”.
وتتابع “تصل إلينا هذه الحالات يوميًا، ويعتمد الطبيب بتشخيصه في الغالب على نتائج مختبرات أهلية غير مرخصة ولا تعتمد كل التحاليل، وأيضاً غير دقيقة ومدارة من قبل أطباء أسنان أو ممرضين باتفاقات مسبقة مع الأطباء”.
وعلى رغم من تشكيل مجلس الوزراء بموجب الأمر الديواني رقم 23455 في الـ22 من أيار 2023 لجنة تفتيش ومراقبة على المراكز والعيادات الصحية والتجميلية والصيدليات ومخازن الأدوية غير المرخصة في العراق، إلا أن كثيرًا من الأطباء ما زالوا مستمرين بفتح العيادات بعد أن تحولت هذه التوجيهات الحكومية إلى مجرد توجيهات لغايات الاستهلاك الإعلامي الأمر الذي ينذر بمزيد من المعاناة للمرضى لاسيما المصابين بطيف التوحد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى