جروح غائرة في صالات المتحف العراقي المنهوب
لقد تمت سرقة 15000 قطعة أثرية من العراق منذ احتلاله من قبل القوات الأمريكية ولم يستعد الكثير منها حتى الآن.
بغداد- الرافدين
بينما تحتفل دولة العالم بآثارها ومتاحفها، لا يزال العراق مسكونا بجروح غائرة لآثاره المنهوبة في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة.
وبعد أكثر من عقدين من الغزو الأمريكي للعراق، مازال الاتجار بالآثار يمثل مشكلة خطيرة للعراق، إذ تركت الفوضى وضعف الإدارة والفساد الحكومي وسيطرة ميليشيات ولصوص آثار على مواقع أثرية، أكثر من 10000 موقع أثري في جميع أنحاء البلاد دون حماية، مما أدى إلى انتشار عمليات تنقيب غير قانونية وعشوائية وتهريب من قبل اللصوص والمجرمين والعصابات المتخصصة بتهريب الآثار.
ولم تكتف عملية تهريب الآثار العراقية بعد احتلاله من قبل القوات الأمريكية بلصوصية البحث عن الأموال، بل متعلقة بهدف سياسي شرير لمحو هوية العراقيين وذاكرتهم الجماعية وتقديمهم مجرد شعب منقسم على نفسه يعلي من شأن الطوائف والقوميات ويحطّم ثروته الأثرية، أكثر من كونه أسهم في بناء الحضارة الإنسانية.
في وقت تواجه المواقع الأثرية العراقية إهمالاً حكوميًا وصراعًا بين شبكات نبش وتهريب الآثار المدعومة من شخصيات متنفذة وبحماية ميليشيات في مدن جنوب العراق، كما أنها تتعرض إلى أضرار كبيرة بسبب العوامل الناجمة عن التغير المناخي، كالعواصف الرملية وتزايد الملوحة، في بلد “يعاني أكثر من غيره ويعمل أقل” لمواجهة هذه الظاهرة.
وطالب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية بالبحث عن حل لإنقاذ تراث العراق الأثري، فهذا البلد الذي يعاني من فساد مستشر في عموم مؤسساته، يعيش ثلث سكانه في الفقر وتُهمَل مواقعه الأثرية، رغم ثرواته النفطية الهائلة.
وفي إحدى قاعات العرض بالمتحف العراقي وسط بغداد، وقف الخمسيني خالد يوسف، منبهرا أمام أحد ألواح ملحمة جلجامش الذي استعاده العراق قبل نحو ثلاثة أعوام ضمن آلاف القطع الأثرية من الولايات المتحدة الأمريكية.
وإبان الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 وعقبه تعرض المتحف العراقي والمواقع الأثرية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد للسرقة، إذ تم نهب آلاف القطع الأثرية، التي تمثل مراحل مختلفة من تاريخ بلاد الرافدين.
وجرت عمليات السرقة بشكل منهجي من المتحف العراقي أو من خلال حفر ونبش مواقع أثرية من قبل لصوص ومهربي آثار، خاصة في الأيام الأولى لاحتلال بغداد.

ندى الشبوط: لقد تم نسيان الكارثة الثقافية التي بدأت في العام 2003. وبعد أكثر من عقدين من المناشدات التي لم تجد صدى لها، من أجل العمل الدولي الجماعي لإعادة الآثار العراقية
ومن بين القطع كان اللوح السومري لملحمة جلجامش التاريخية والذي وقف العراقي خالد يوسف أمامه مشدوها، وهو يردد “حدث عظيم بالنسبة لي أن أقف اليوم أمام هذه الملحمة التاريخية الكبيرة”.
وأضاف الرجل الذي قدم من بريطانيا، حيث يقيم، إلى بغداد في جولة سياحية لوكالة أنباء “شينخوا” الصينية “أشعر بالفخر لوجود هذه القطع الأثرية في المتحف العراقي بعدما تعرضت للتهريب مثل آلاف القطع الأخرى”.
وفي العام 2019 تم غلق المتحف بسبب ثورة تشرين التي قادها جيل من الشباب العراقي الناقم على الفشل والفساد السياسي، واضطرابات أمنية قبل أن يعاد فتحه في عام 2022، ويضم المتحف 23 صالة تعرض فيها أكثر من 10 آلاف قطعة أثرية تعود لعصور تاريخية وحضارات مختلفة.
ويحمل الكثير من العراقيين الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية تعرض الآثار العراقية للسرقة إبان غزو العراق.
ومن بين هؤلاء عالم الآثار وأستاذ التاريخ العراقي القديم في الجامعة العراقية ببغداد عادل المبارك، الذي اتهم واشنطن بعدم حماية المتحف العراقي.
وقال المبارك لوكالة “شينخوا” الصينية “إن القوات الأمريكية كانت هناك في منطقة العلاوي وسط بغداد، حيث يقع المتحف العراقي، ولم تقوم بحمايته من العصابات واللصوص، ربما لأنه لم يكن ضمن خطتها للسيطرة على المدينة أو ربما لأسباب أخرى”.
ولم يكن من الممكن تحديد حجم الأضرار التي لحقت بالمتحف العراقي بدقة لأن سجلات الجرد كانت في حالة سيئة قبل الحرب وتعرضت لأضرار جزئية أثناء النهب، وفق المبارك.
وتابع أنه “مع ذلك، هناك رقم رسمي تقريبي يبلغ 15000 قطعة مفقودة لم تتم إعادة الكثير منها بعد”.

وقال المبارك في هذا الإطار إنه “لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه السلطات العراقية، بما في ذلك استمرار السرقة والحفريات العشوائية، خاصة في المواقع الأثرية البعيدة عن المناطق الحضرية وأحيانا في مواقع غير موثقة من قبل الحكومة”.
وأوضح “أن حماية المواقع الأثرية تحتاج إلى تخصيصات مالية كافية من الحكومة لتوظيف عدد أكبر من الحراس، بالإضافة إلى ضرورة تسييج هذه المواقع والعديد من الجهود اللوجستية الأخرى”.
بينما عدت ندى الشبوط أستاذة التاريخ والفن في جامعة شمال تكساس احتفال الحكومة في العراق باستعادة بعض القطع الأثرية بمجرد “انتصار صغير”.
وكتبت الشبوط في صحيفة واشنطن بوست “تم نسيان الكارثة الثقافية التي بدأت في العام 2003. وبعد أكثر من عقدين من المناشدات التي لم تجد صدى لها، من أجل العمل الدولي الجماعي لإعادة الآثار العراقية، يتم الاحتفال اليوم بانتصار صغير، لكن كما يبدو أن حجم الخسارة أكبر بكثير، والمتسبب بها لا يواجه أي عقاب، بينما يدفع الشعب العراقي الثمن”.
وبعد نهب المتحف العراقي أثناء احتلال العراق كتبت الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي “لم أبكِ أمام جثمان أبي، لكنّني بكيت وأنا أُشاهد ذلك الرهط الغريب من الرعاع واللصوص وهم يهجمون على متحف بغداد، فيستبيحون ذاكرة الإنسانيّة، ويعيثون فيها خرابًا، ويدمِّرون كلّ ما لم تستطع أيديهم نهبه، ويتركونه وقد غدا مغارة مرَّت بها الوحوش البشريّة”.
وأضافت في مقال مؤثر ضمنته لاحقا في كتابها “قوبهم معنا وقنابلهم علينا” هكذا، تحت وضح الضمير العالمي، طال النهب والتدمير 170 ألف قطعة آثار ونفائس تاريخيّة، لا مثيل لها في أيّ مكان في العالم. حدث هذا على مرأى من جيوش جاءت تُبشِّرنا بالحضارة، مُفاخرةً بمعدّاتها المتطوِّرة في الاستطلاع، والتقاط “الصور الحراريّة”، والرؤية الليليّة، لكنّها لم ترَ شيئًا، وأكبر مخازن التاريخ تُنهب كنوزه في عزّ النهار.




