أخبار الرافدين
كرم نعمة

تدمير قرطاج أم هدم معبد فيسبوك!

لاشي لافت في احتفال المرشد الأعلى لفيسبوك! مارك زوكربيرغ الأسبوع الماضي بعيد ميلاده الأربعين، أكثر من العبارة المثيرة للجدل على القميص الأسود الذي كان يرتديه، عندما استخرج من التاريخ جملة: يجب تدمير قرطاج “Carthago delenda est”.
قد تبد هذه الجملة مألوفة لدى أجيال من تلاميذ المدارس الذين درسوا اللغة اللاتينية، وبينهم زوكربيرغ. لكنها أبعد من ذلك عن رجل يزعم أنه يعمل على ربط العالم، بينما هو في حقيقة الأمر يريد حكم العالم!
ومن هنا، يبدو أن اختياره للعبارة الغامضة عن تدمير قرطاج لتكون محور احتفاله بعيد ميلاده بمثابة تذكير بتاريخه الشخصي وهو يدير إمبراطورية رقمية مكونة من 3 مليار مشترك، وباعتراف الشركة نفسها يشكل خمسة في المائة منهم حسابات مزيفة أو مكررة أو تدار آليا وليس لأشخاص مُعرفين بأنفسهم.
وهو أمر دفع صحيفة فايننشيال تايمز أن تختار مفردة فيكبوك “Fakebook” في دلالة على التزييف، وهي تعلق على خبر قيام شركة فيسبوك بإغلاق 1.3 مليون حساب مزيف. أي ما يقرب من نصف المستخدمين الحقيقيين النشطين شهريا.
ربما استوعب زوكربيرغ وأصدقاؤه المستقبل مرة أخرى، كما فعل في سنواته الجامعية الأولى. لهذا أبقى الرؤيوية التي تميز بها في سنوات مبكرة من عمره مشدودة إليه. وهو يقترح علينا عالما افتراضيا مقبلا سيحل علينا بدلا من عالم الإنترنت.
هكذا يظهر لنا فيسبوك مرة تلو الأخرى أنه المستبد الأكبر ويمثل معضلة أخلاقية بالنسبة إلينا جميعا ونحن نتذكر جملة زوكربيرغ الشهيرة التي أطلقها عام 2012 “فيسبوك لا يعني لي مجرد شركة، بل بناء شيء يغيّر الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”.
لا يمكن اعتبار فيسبوك مرآة للأشخاص كما زعم نك كليغ الذي هو بمثابة وزير خارجية الشركة العملاقة، بقوله “فيسبوك منصة أشبه بمرآة للمجتمع”، بل إنها سلاح غير مرخص وخارج نطاق السيطرة، وفي أيـدي 3 مليار شخص في جميع أنحاء العالم، وزناد مخترق من قبل عملاء سريين يعملون لصالح الدول والمافيات والأحزاب والتنظيمات المتطرفة.
ثمة معركة سياسية وتجارية كبرى بدأت الحكومات تنتبه لها بعد ارتفاع مطالب تهديم أعمدة المعبد على مشيّديه. فيسبوك لا تكتفي بربط العالم بوصفها أداة للتواصل، بل إن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لا يتردد في السعي إلى حكم العالم والتأثير على مزاج الديمقراطيات والقوانين والبنوك، وإثارة النزعات العنصرية والطائفية وترويج الأخبار الملفقة.
عندما يتعلق الموضوع بالضمير التجاري، فهذا يعني أيضا بالنسبة إلى إدارة أكبر إمبراطورية رقمية بالعالم خسارة المليارات من الأموال! لذلك تبدو طريقة الأولويات ماكرة وذكية تخفف من الضغط الدولي على فيسبوك. بينما الأموال ستستمر في التدفق على الشركة التي ارتدت قناعا جديدا لا أكثر.
مع ذلك يعيش مارك زوكربيرغ حياته الطبيعية متمتعا بالثراء المادي الهائل الذي يحظى به في وادي السيليكون باعتباره صانع القرار الوحيد في شركة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل.
لا شيء مخيف أكثر من أن تتحول شركة فيسبوك إلى أكبر مستبد في العالم وقوة متعجرفة وشركة غارقة في الظلام لتبادل المعلومات المزيفة، فالتزييف المنتشر سواء بشخصية المستخدمين أو في نشر المعلومات هو مجرد جانب آخر من جوانب التكنولوجيا يقوض مصداقيتها ويحرف مهامها مع الدول ووسائل الإعلام والمجتمعات.
أنا مثل غيري الكثيرين عبرّت عن “احتقاري” لفيسبوك لنفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها الأخبار المتعلقة بمس الخصوصية والتفاعلات بالابتسامات الوهمية والمجاملات الكاذبة واللغة الوضيعة، ناهيك عن البذاءة والشتائم والتنكيل والكراهية المعلنة. “هذا لا يعني أنني لا أراقب ما ينشر على مواقع التواصل بشكل عام”.
الغريب أن العالم يبدو وكأنه منوّم مغناطيسيا حيال ذلك مع وجود من يثق بفيسبوك كمصدر حر وديمقراطي لتبادل المعلومات، بينما مصطلحا ما بعد الحقيقة والأخبار الزائفة كبرا وتضخما مع تضخم فيسبوك.
عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لا يمثل قصة سعيدة ولا يمكن اعتباره مرآة للأشخاص كما زعم نك كليغ، فالشركة بالأساس تقنية تعاني من وهم أنها دولة قومية. أو بتعبير روجر ماكنامي مؤلف كتاب “الوقوع تحت تأثير زوكربيرغ”، وسائل التواصل الاجتماعي قد ضلت طريقها.
يختصر جون نوتون الباحث الأيرلندي وأستاذ التكنولوجيا في الجامعة المفتوحة كل ذلك بقوله إن الوحوش مازالت تسرح على فضاءات فيسبوك، لكن هذا ليس سببا لفتح حديقة حيوانات للوحوش نفسها أمام الناس من أجل الفرجة أو حتى محاولة لتدجين المستحيل.
لذلك فإن الاعتقاد بأن الغد مكان مختلف عن اليوم هو بالتأكيد علامة مميزة فريدة لنوعنا، لكن ذلك لا يعني أن فيسبوك مثلا وحده من يمتلك صناعة المستقبل، فالتكنولوجيا لا يمكن اختزالها في جشع كبريات الشركات في وادي السيلكون.
ومن أجل إعادة التاريخ مرة أخرى إلى سكته، يجب أن تكون الحتمية التكنولوجية مرادفة للحتمية التاريخية، وفق تعبير نكولاس كار مؤلف كتاب “الضحالة: تأثير الإنترنت على عقولنا” الذي سبق وأن استنتج أن زوكربيرغ فصل فيسبوك عن الواقع، وأظهر كيف يمكن لشخص أن يكون على حد السواء، ذكيا بطريقة مذهلة وساذجا بشكل مثير للدهشة.
ليصل إلى القول إن زوكربيرغ ليس شخصا شريرا، لكنه لا يعرف سوى القليل عن العالم الذي يعيش فيه البشر.
أو بتشبيه المحللين التكنولوجيين فيسبوك بالمكافئ الأبوي لإعطاء السكين لطفل صغير والأمل في اتخاذ القرار الأفضل. فطريقة تعامل فيسبوك مع كل ما جرى من أحداث في العالم على مدار السنوات الماضية، وعدم اتخاذ القرار الرادع لإيقافها، تحول دون أن تجعل التاريخ يحكم علينا بلطف. فإذا كنا نبحث عن العدو، فقد قابلناه وجها لوجه على فيسبوك، ولم يكن غير نحن!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى