التعداد السكاني في العراق..غايات مجهولة وتكاليف طائلة
محللون: أحزاب السلطة تخشى من تعداد سكاني حقيقي تشرف عليه مؤسسات مواطنة نزيهة لأنه يكشف زيف النظام السياسي الحالي
بغداد – الرافدين
انطلقت يوم الجمعة 31 أيار أولى خطوات التعداد السكاني في العراق بعد إخفاق دام أكثر من 16 عامًا، وتأجيله أربع مرات متتالية، بسبب خلافات سياسية حول المذهب والدين، وهو ما جرى تجاوزه فعليًا بالإعلان عن بدء إجراءات الإحصاء التجريبي في الحادي والثلاثين من أيار الجاري، وهو التعداد السكاني الأول في العراق منذ الغزو الأمريكي سنة 2003، وتستمر مدة 14 يومًا في 18 محافظة عراقية و86 منطقة، بعد مرور 27 عامًا على آخر إحصاء في البلاد.
وأثار قرار التعداد جدلا واسعًا بين الأوساط السياسية منذ الإعلان عن هذا التعداد، فالأمر في العراق أعقد من مجرد حصر وعد للسكان، ففي العراق أنشأ الاحتلال الأمريكي عملية سياسية على أساس من المحاصصة الطائفية، واعتمد في تحديد نصيب كل طائفة من السلطة، تقديرًا غير دقيق لعدد العراقيين من أبناء هذه الطائفة أو تلك، وهو التقدير الذي لاقى انتقادات كثيرة إذ همشت بعض مكونات المجتمع العراقي لحساب أخرى.
ويؤكد مراقبون أن الغاية من التعداد السكاني في دول العالم لمعرفة إمكاناتها البشرية والمادية وتحددها بالضبط من أجل استعمالها في خطط تنموية للنهوض بالبلد فضلا عن معرفة طبيعة النمو السكاني بالقياس للموارد وما الذي يحصل في المستقبل لكي يتم الحساب له.
ويرى مراقبون أن إجراء تعداد علمي ومحايد، ضرورة لإعادة ضبط الأمور وإصلاح ما أفسده الاحتلال، إلا أن هذا الأمر لا يتوفر، فيما أعلنت عنه حكومة السوداني مؤخرًا.

وقال الأكاديمي الباحث السياسي الدكتور حامد الصراف في حديثه لـ “الرافدين” إن “إجراء تعداد سكاني يعد ضرورة لرصد التغيرات والنمو السكاني وتوزيعهم على الرقعة الجغرافية العراقية، ويكون التعداد بإشراف مؤسسات مواطنة حقيقية، وليس نظام محاصصة مقيت”.
وأكد الصراف أنه “عدم ذكر خانة المذهبية كان ان يكون جيدًا في حال لو تم التعداد تحت مظلة مؤسسات مواطنة حقيقية، لكن مع وجود نظام طائفي ومحاصصاتي فأن الأمر يكون عرضة للتزيف والغش والتلاعب في أعداد السكان ومستحقاتهم”.
وحمل الصراف الاحتلالين الأمريكي والإيراني مسؤولية ترسيخ مفاهيم الأغلبية لدى المواطنين والسياسيين باحتكار السلطة على حساب المكونات الأخرى دون النظر إلى الكفاءات والمؤهلات.
وأشار الصراف إلى أن “عملية التعداد وأعداد المراقبين الكبير يشير إلى أنه عملية التعداد ستصبح نقطة فساد من خلال استفادة الأحزاب والميليشيات من الأموال الفائضة التي خصصت لها وستصبح عملية فساد مزدوجة”.
ويتساءل مراقبون حول الفائدة من التعداد وصرف مبالغ وجهود عليه، في وقت تغيب فيه عن العراق أي خطط تنموية وخطط لاستثمار موارد البلد بشكل صحيح.
وبحسب مراقبين فإن التعداد الجديد يتجاهل خانة القومية والمذهب الديني في الإحصاء، وهو أمر جيد لو لم تكن هناك هذه العملية السياسية الفاسدة، ولو كان هناك دستور وطني يجمع العراقيين ولا يفرقهم على أساس المذهب والقومية، أما في واقع العراق الحالي، فإن التعداد الجديد سيعمق حالة الغموض وسيطرة البعض على الحكم وفق مزاعم الكثرة العددية التي لا دليل عليها.
ويثير التعداد بالرغم من كونه تعدادا “تنمويا” كما أعلنت وزارة التخطيط، الكثير من مخاوف الكثير من العراقيين الذين عانوا التهميش والتهجير، فهم يشعرون أن التعداد يأتي عقب ممارسة التغيير الديمغرافي تجاه مناطقهم وخاصة في العاصمة بغداد وغيرها من المدن، إلى جانب نزوح عدد كبير من السنة داخل العراق ولجوء أعداد أكبر للعيش خارج البلاد، فضلا عن وجود عشرات الآلاف من أبنائهم في السجون الحكومية.
وقال الناشط السياسي العراقي عبد القادر النايل إن ” التغير الديموغرافي في العراق بدأ منذ اليوم الأول للاحتلال الأمريكي وكانت البصرة هي الركيزة الأولى بعد دخول الجماعات المسلحة من إيران حيث تراجع لنسب كبيرة وجود المكون السني الذي كان يشكل أكثر من 40 بالمائة من سكانها”.
وأضاف أن “التغير الديموغرافي الذي مارسته الجماعات الطائفية القريبة من إيران اعتمد على الطائفية والدين، حيث شهدت بغداد تهجير الآلاف من المكون المسيحي والاستيلاء على مئات المنازل والعقارات المملوكة للمواطنين من ذات الجهات الحزبية أو الجماعات المسلحة وانتهجت ذات المبدأ مع المكون السني في بغداد من أقضية أبو غريب واللطيفية والمشاهدة والطارمية فضلا عن المدن الكبيرة داخلها”.

وأشار النايل إلى أن “لديالى النصيب الأكبر، حيث شكل نسبة السنة فيها أكثر من 80 بالمائة إزعاجا لإيران باعتبار أنها أقرب طريق بري لبغداد ولذلك أوكل إلى مليشيات مسلحة عمليات التهجير والتطهير العرقي فيها والتجنيس حيث كشفت جهات حكومية عن وجود الآلاف من منح الجنسية العراقية لغير العراقيين في ديالى”.
ولفت الناشط السياسي إلى أن “ازدياد عمليات التطهير العرقي والطائفي والاستيلاء على المدن العراقية بقوة السلاح وأصبحت منزوعة السكان بعد أحداث عام 2014 ودخول تنظيم داعش، حيث سجلنا ونحن في عام 2024 من خلال إحصاءات دقيقة أن مئة مدينة وقرية إلى الآن منزوعة السكان وفي مقدمتها جرف الصخر وعزيز بلد والعوجة ويثرب ومجمع الفوسفات غرب الأنبار والعويسات في عامرية الفلوجة فضلا عن قضاء سنجار الذي لم يسمح لعودة أهلها وفي مقدمتهم الإيزيدين”.
وشدد النايل “على عدم إمكانية إجراء تعداد سكاني عادل في ظل المعطيات التي ذكرت سابقا والتي تؤكد ممارسة التغيير الديمغرافي لسنوات عدة يستهدف العرب السنة”.
وأوضح أن “سبب اختيار هذا التوقيت للتعداد السكاني لأن الجهات المتنفذة في العراق استطاعت أن تغير التركيبة السكانية بإطارها الطائفي لذلك يريدون إجراء التعداد وفق مقاسات طائفية سيكون المكون السني الخاسر الأكبر فيها”، مشيرا إلى أن “السبب من الاستعجال في العمل على إجراء التعداد السكاني هو للوصول إلى التطابق مع النسب التي فرضها بول بريمر الحاكم المدني للاحتلال في عام 2004 عندما أسس مجلس الحكم على تقديرات وهمية عندما منح أغلبية سياسية لمكون معين على حساب مكونات العراق الأخرى من دون أن تخضع لتعداد حقيقي أو رؤية علمية وهي بعيدة عن الواقع الاجتماعي”.
وبين أن “المستفيدين من هذه النسب المفروضة وبدعم إيراني يريدون أن يوهموا العالم بتعداد وهمي لأن الجهة التي ستنفذ هذا التعداد هي ذات الجهة التي مارست التهجير والقتل والتغير الديموغرافي في العراق”، متسائلا عن “كيفية إجراء تعداد لمدن منزوعة السكان؟ وما هو مصير ملايين العراقيين في الخارج وعشرات الآلاف في المعتقلات؟ واصفا التعداد الذي تخطط له الحكومة العراقية بأنه أكبر جريمة تزوير وترسيخ للتغير الديموغرافي في العراق”.
وعلى الرغم من عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي التي تواصل أحزاب السلطة وميليشياتها تنفيذها في مناطق عديدة من البلاد لصالح مخططات خارجية، إلا أن تلك الأحزاب – بحسب محللين – لم تكتف بذلك وأنها لا تريد إجراء إحصاء سكاني حقيقي في العراق، خشية أن يكشف ذلك زيف المزاعم التي أسس عليها النظام السياسي، وبالتالي خشية سقوط هذا النظام الفاسد.



