أخبار الرافدين
تقارير الرافدينحكومات الفساد في العراق

نساء المغيبين في الصقلاوية يأخذن زمام المبادرة لانتشال عائلاتهن من معاناة فقدان المعيل

المعاناة وشظف العيش وضيق اليد، ظروف قاهرة تدفع نساء المغيبين قسرًا على يد الميليشيات في الصقلاوية إلى تحمل مسؤولية إعالة عائلاتهن لتعويض غياب المعيل.

الأنبار- الرافدين
سلطت ذكرى تغييب نحو 750 رجل من أبناء ناحية الصقلاوية التابعة لقضاء الفلوجة في محافظة الأنبار في مثل هذه الأيام من شهر حزيران قبل نحو ثماني سنوات الضوء على معاناة أسرهم لاسيما النساء وهن يكابدن الظروف الصعبة وتحديات الحياة لتوفير العيش الكريم بعد فقدان المعيل.
وحملت الذكرى الثامنة لتغييب رجال الصقلاوية الألم والقهر في نفوس عائلاتهم بعد أن تركتهم الحكومات المتعاقبة والمنظمات الدولية وحدهم في مواجهة ظروف قاسية خاضت فيها نساء المغيبين قسرًا معركة صعبة منذ سنوات ضد الفقر والعوز إلى جانب ممارستهن دور الرجل ودور المرأة على حد سواء لتوفير لقمة عيش كريمة فضلًا عن قيامهن بمهام تربية الأطفال ورعايتهم لتعويض غياب الرجال.
ودفع عجز النساء عن القيام بأعمال الزراعة وغياب الأيدي العاملة عائلات المغيبين ممن فقدوا المعيل إلى بيع أراضيهم الزراعية وممتلكاتهم أو تأجيرها والهجرة إلى مناطق أخرى إذ يشكل الفلاحون وأصحاب الأراضي الزراعية الذين تركت أراضيهم نهبًا للجفاف والإهمال السواد الأعظم من المغيبين ما اضطر نسائهم إلى البحث عن بدائل تؤمن لهن دخلًا ماليًا ثابتًا.
وتبين أم يوسف (55 عامًا) أنها باعت الخمسة دوانم التي تملكها عائلتها وغادرت لتعيش واحفادها في مدينة أخرى بعد أن امتهنت بيع مشتقات الحليب لتأمين مورد مالي يلبي احتياجات أسرتها اليومية.
وتؤكد أم يوسف التي مازالت تتأمل رؤية ابنها يوسف الذي جرى تغييبه منذ سنوات تاركًا خلفه سبع فتيات وأربعة صبيان أن “الأرض بارت بعد أن فقدت زوجي وأولادي الثلاثة” وتتساءل “ما فائدة الأرض دون راع يرعاها؟”.
وتلفت أم يوسف وهي تقاوم دموعها وتشيح بوجهها بعيدًا إلى أن “اتخاذها قرار بيع أرض عائلتها كان صعبًا إذ كنت كمن قرر بيع أحد أعضاء جسده”.
وأضافت أن “العيش في المدينة ورحلة البحث عن أبنائها تحتاج الى أموال كثيرة كان عليها أن توفرها بأي طريقة”.
في المقابل هناك عشرات النساء من أهالي المنطقة وجدن أن استثمار الأرض التي لم يعد أحدًا يرعاها، فرصة لتوفير دخل ثابت للأسرة من جهة وحماية الأرض من البوار من جهة أخرى بعد أن تمسكن بالحفاظ على أراضي أسرهن على أمل عودة الرجال في وقت لاحق.
وتؤكد أم عامر التي وجدت نفسها فجأة تعيل ثلاثة أبناء وخمسة أحفاد بعد غياب زوجها وابنها الكبير أنها لم تبع مزرعة الحمضيات التي تركها زوجها والبالغة مساحتها ثمانية دوانم، لكنها عرضتها للإيجار الفصلي.
ولم تحصل أم عامر على أكثر من مليون وخمسمائة ألف دينار عراقي (ما يعادل 1000 دولار أمريكي) كبدل إيجار فصلي لمزرعتها، إلا أن هذا المبلغ إلى جانب ما تحصل عليه من خياطة الملابس، بدا كافيًا لمغادرة الفلوجة وتأسيس حياة جديدة لأولادها وأحفادها في كردستان العراق بعيدًا عن “شبح العوز وذل الطلب” على حد وصفها.
وتقول أم عامر بنبرة حزينة إنها “كانت تملك كل ما يتمناه المرء، الماء والخضراء والوجوه الحسنة زوجي وأبنائي وأحفادي والمال والحلال، لكن كل هذا تبدد بين ليلة وضحاها”.
وتضيف أن “المزرعة باتت خاوية وصار العيش في منطقتنا صعبًا لأننا لا نملك موردًا ماليًا والمساعدات البسيطة التي توفرها بعض المنظمات (غير الحكومية) تستنزف طاقتنا وكرامتنا”.
وتتابع “غادرت وأطفالي وأحفادي، هربًا من طوابير المنظمات وحفظا لما تبقى من كرامتنا”.
وتخلص السيدة أم عامر بالقول إن “الهروب ليس حلًا لكن البقاء أسيرة دوامة انتظار المساعدات جعل منا متسولين ننتظر عطف هذا وشفقة ذاك، وهذا ما لم أرتضيه لنفسي ولمن تبقى من أولادي واحفادي”.

نساء الصقلاوية يحاولن استصلاح أراضي أسرهن الزراعية لتوفير نفقات الحياة ومتطلباتها بعد فقدانهن المعيل

وعانت المرأة العراقية الكثير في بلد يعد ضمن البلدان العشر الأخطر على المرأة بحسب تصنيف معهد المرأة والسلام والأمن، لعام 2023-2024، وأوضاعها تزداد سوءًا مع استمرار النهج الحكومي في مصادرة حقوقها.
وتشير إحصاءات غير حكومية إلى وجود نحو مليون عائلة تعيلها نساء، لا سيما ممن غيب أو اعتقل أزواجهن وأبنائهن على يد القوات الحكومية وميليشيات الحشد الشعبي.
وتواجه العائلات التي فقدت معيلها تحديات كثيرة مع صعوبة الأوضاع الاقتصادية في العراق وغياب الدعم الحكومي.
ولا تحصل إلا نسبة قليله من النساء اللاتي ليس لهن معيل سوى على معونات مالية بسيطة من الحكومة، فيما يعيش أغلبهن في ظل دوامة من الفقر واليأس، وتتعرض أرواحهن يوميًا للخطر وتهدر كرامتهن باستمرار.
وتقول السيدة سعدية حمد خلف من ناحية الصقلاوية إنها اليوم تعيل 14 حفيدًا من دون أي مصدر للعيش، فأبناؤها كانوا يعملون في البناء وحالهم المادية جيدة قبل أن يتغير الحال بتغييبهم وهدم بيتهم بسبب العمليات العسكرية.
وفقدت سعدية زوجها قبل سنوات طويلة، وتولت تربية أبنائها الأيتام وتواصل الآن المهمة نفسها مع أحفادها بعد غياب آبائهم ومصيرهم المجهول حتى الآن.
وقالت السيدة إنها “طرقت كل الأبواب بحثًا عن أبنائها التسعة المختفين قسريًا دون الحصول على إجابة واضحة حول مصيرهم بعد أن أنهكها البكاء والانتظار”.
وتابعت “إلا أنني لم أفقد الصبر والأمل بالعثور عليهم”.
وتروي ظروف تغييب أبنائها قائلة إننا “مع شدة القصف رفعنا الرايات البيضاء وتركنا منزلنا متجهين إلى القوات الأمنية التي كانت متوقفة قرب مقبرة البوعكاش، ومع وصولنا تم فصل الرجال وطالبوا النساء بالاستمرار في السير، وعندما سألتهم عن أبنائي قالوا إن هناك تدقيقًا أمنيًا سيخضع له الرجال، وهي إجراءات عادية وسيعودون إليكم بعد اكتمالها”.
وتتساءل خلف، “هل من المعقول أن يستمر التدقيق الأمني لمدة ثماني سنوات من دون معرفة أماكن اعتقالهم أو مصيرهم؟”.
وتعاني عائلات المغيبين في الصقلاوية ومن بينهم عائلة السيدة سعدية حمد خلف الفقر وضيق اليد جراء تغييب المعيل، كما أن بعضهم موظفون في الدولة وانقطعت رواتبهم بسبب تغييبهم قسرًا، ولا بد من اللجوء إلى الإقرار بوفاة المغيب عبر القضاء لكي يحصلوا على مستحقاتهم المالية، وهو ما تمتنع منه عائلاتهم لأن ذلك يعني بحسبهم تنازلهم عن الأمل بالعثور عليهم أو قد يعطي هذا الإجراء الضوء الأخضر لتصفيتهم من قبل الجهات التي غيبتهم في حال وجودهم في معتقلات سرية.
وتعلق سعدية على هذا الأمر بالقول “كيف يمكن لي أن ألجأ إلى القضاء لكي يقرر وفاة أبنائي حتى أحصل على حقوقهم المالية، وأنا التي شاهدت اعتقالهم وهم أحياء من قبل القوات الأمنية، ولن أقدر على الإقرار بوفاتهم لحين معرفة مصيرهم”.

السيدة سعدية حمد يحدوها الأمل بعودة أبنائها التسعة في وقت ترفض فيه الإقرار بوفاتهم لكي لا تتنازل عن أملها المنشود

وتطالب أمهات عشرات الآلاف من المغيبين قسرًا والمختطفين من قبل الميليشيات الطائفية بالكشف عن مصير أبنائهن وأزواجهن وسط تساؤلات حول مماطلة الحكومات المتعاقبة والقضاء في الكشف عن مصيرهم أو حتى فتح ملفاتهم.
وأم يوسف المحمدي واحدة من مئات ينتضرن أولادهن وهي تستمع لآيات من القرآن الكريم، في سورة يوسف، إذ تحاول الأم العراقية أن تستمد الأمل من قصص عاد فيها الأبناء، فلأكثر من ثماني سنوات يغيب عنها أبناؤها الخمسة في الصقلاوية.
وتخشى المحمدي أن تبيض عيناها قبل أن تلتقي بهم، بعد أن ضعف بصرها، ونالت الأمراض المزمنة منها وبعد أن شقيت برعاية 24 من الأحفاد.
ويصنف العراق ضمن الدول الأعلى في عدد المختفين قسرًا، إذ غيبت الميليشيات والقوات الأمنية مئات الآلاف من المدنيين بدوافع طائفية وانتقامية وفقًا لتقارير دولية.
وتشير تقارير للأمم المتحدة إلى أن ما بين 250 ألفًا ومليون شخص غيبوا في العراق غالبيتهم العظمى من نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى، مع تعتيم حكومي على مصيرهم.
وفي نيسان 2023 أصدرت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري تقريرها الخاص بعد زيارة اللجنة للبلاد لمدة أسبوعين، أجرت خلالها لقاءات مع ذوي المغيبين وممثلين عن منظمات المجتمع المدني وقانونيين، وأكدت في تقريرها عدم إمكان السلطات العراقية الاستمرار في إنكار حالات الاختفاء القسري التي حدثت على أيدي جهات عدة تابعة لها أو تعمل بمعرفتها.
وأكد تقرير اللجنة الأممية على أن الحكومة لا يمكن أن تنكر حجم المشكلة، وطالبتها بالتزام البحث عن المختفين وعدم التذرع بنقص المعلومات من الأقارب أو المشتكين لتبرير عدم الشروع في أنشطة البحث والتحقيق، كما نص تقرير اللجنة على ضرورة اعتماد إستراتيجية شاملة للحصول على الجبر والتعويض وإعادة التأهيل لجميع ضحايا الاختفاء، وطالبت بتنظيم حملة وطنية لجمع الحمض النووي وتسجيله، وفي حالات الوفيات إخراج الرفاة من القبور للتعرف عليها وإعادتها لعائلات الضحايا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى