مكاتب الميليشيات الاقتصادية تستنزف موارد الموصل وتضيق ذرعًا بسكانها
الميليشيات جاءت لتبقى في الموصل وأن مزاعم الحد من نشاطاتها ضرب من الخيال لأنها ستصطدم بقوة المال والسلاح التي تتفوق سطوتها في الوضع الراهن على قوة الدولة.
الموصل – الرافدين
حذر مراقبون من توسع نشاط المكاتب الاقتصادية التابعة للميليشيات في محافظة نينوى وازدياد جرائم الفساد والابتزاز في ظل تنصل السلطات الحكومية من مسؤوليتها بإيقاف تلك الأنشطة التي تستحوذ على المشاريع والمناقصات فضلًا عن فرض الإتاوات.
وقالوا إن “مشكلة المكاتب الاقتصادية تتفاقم وسط عجز حكومي أمام نفوذ الميليشيات المتنامي في نينوى وأن المعلومات التي تتردد من وقت لآخر بشأن غلق تلك المكاتب لا يمت للواقع بصلة فالأنشطة مستمرة بشكل مباشر وغير مباشر”.
ولفتوا إلى أن الأعمال قد تتم في بعض الأحيان عن طريق وسطاء محليين أو عن طريق شركات مع تثبيت نسب مالية كبيرة من قيمة المشروع المسيطر عليه وأن كل مشروع لا يخضع للعمولات أو لمنهج تقاسم النسب مصيره الإهمال أو تعطيله بشكل كامل.
وفي عودة للسنوات الماضية التي أعقبت استعادة الموصل من قبضة تنظيم داعش كانت مدة خمس سنوات كافية ليتحول تجار “السكراب” و “النفط ومشتقاته” و”العقارات الحكومية” في الموصل إلى واجهات اقتصادية وسياسية بارزة.
وقضت هذه المجاميع نصف المدة في هذا التحول الكبير منذ لحظة دخول تنظيم داعش إلى الموصل قبل عشر سنوات، لتضع اليوم قوانين اللعبة وترسم سياسات المدينة بما يخدم مصالحها ويرسخ نفوذها.
وفي مثل هذا اليوم العاشر من حزيران 2014 كانت قد تركت القوات الحكومية مواقعها في الموصل وانسحبت إلى كردستان العراق.
وكانت الموصل حينها تضم فرقتين عسكريتين (الثانية والثالثة)، بالإضافة إلى فرقة من الشرطة الاتحادية، و14 فوجًا من الشرطة المحلية موزعين على جانبي المدينة قبل أن تختفي كل هذه القوات في ظروف غامضة أمام بضع مئات من المسلحين.
وبعد استعادة الموصل عام 2017 بمشاركة ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة بغطاء جوي من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تحول جزء من هذه الجماعات إلى “تجار” ثم إلى “صناع قرار” داخل المدينة التي دفن جزء كبير من سكانها تحت أنقاض المباني المدمرة في العمليات العسكرية.
ويؤكد مسؤول سابق في الموصل، أن “هذه الفصائل باعت في فترة مابعد التحرير كل مايمكن بيعه في المدينة من أراضي وسكراب، وتحولت فيما بعد إلى مراكز نفوذ داخل المدينة”.
وأكد المسؤول الذي شغل مواقع تنفيذية مفضلًا عدم الإشارة إلى هويته أن بعض الميليشيات مع مرور الوقت “أصبحت ضمن منظومة الأحزاب وهي تسيطر الآن على الوضع الأمني والسياسي”.
وبين أنه “في 2018 تحديدًا، كانت ذروة تحرك هذه الجماعات في “التجارة غير الشرعية”، حيث تحالفت مع المسؤولين التابعين لفصائل في بغداد”.
وأضاف أن “هذه المجاميع قسمت وباعت الأراضي الحكومية التابعة لهيئة الآثار ووزارتي النفط والدفاع في قلب الموصل”.
وتابع المسؤول السابق في الموصل “تعمل المكاتب الاقتصادية اليوم بالشراكة مع فصائل مازالت في الميدان، على إنشاء مدن مغلقة لأحزاب معينة”.
وخلص بالقول إن “هذه الجماعات استخدمت طريقة عزل بعض المناطق تحت تسمية الحفاظ على الديمغرافية الأصلية في منع عودة النازحين، والإبقاء على طائفة أو قومية معينة لاستخدامهم في الانتخابات”.
وفي عام 2018 الذي شهد ذروة نشاط هذه المكاتب قبل أن ترسخ وجودها قال رئيس اللجنة الأمنية في البرلمان آنذاك حاكم الزاملي، إن “بعض القطعات العسكرية الماسكة للأرض انشغلت بالقضايا المادية وبيع الأراضي والإتاوات والرشى وتهريب السكراب والمخدرات والبضائع وتهريب النفط”.
وأوضح الزاملي أن “تلك المجاميع بدأت تهدد الناس وتمارس الابتزاز وقتل المواطنين الموالين للدولة وغير المتعاونين معهم”.
وتتهم هذه الميليشيات ومكاتبها الاقتصادية بالاستيلاء على منازل المسيحيين، الذين تناقصت أعدادهم بشكل هائل في المدينة بعد استعادتها.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن ما يقارب من 100 عقار يملكها مسيحيون، تم تحويلها لأشخاص آخرين بأسماء مزوّرة، قسم من هذه الاملاك ذهبت لأشخاص محليين متنفذين ولم تتمكن الجهود من إرجاعها لمالكيها الشرعيين.
ولفتت إلى أن أغلب هذه الأعمال حصلت في مناطق شرق الموصل.
ويؤكد العضو السابق في مجلس محافظة نينوى ديلدار زيباري أن “لواء 30 (حشد الشبك) يعرقل بعض الأحيان دخول بعض السكان إلى سهل نينوى”.
ويشير زيباري إلى أن “بعض الفصائل في تلك المناطق تمنع البناء الجديد”.
كذلك يلفت إلى وجود مسلحين باتجاه قضاء مخمور في سلسلة الجبال المعروفة بـ”قرة جوغ”، والوضع الخاص في سنجار شمال الموصل، والذي تحول إلى قضية دولية ليست للحكومة العراقية القدرة على حل النزاعات فيه، والفصل بين الجماعات المسلحة الكثيرة داخله”.
وإضافة إلى المكاتب الاقتصادية تمتلك الميليشيات العشرات من المقرات داخل أحياء مدينة الموصل، كما تنتشر أيضًا في القرى والنواحي المحيطة بالمدينة ومنها بادوش وسهل نينوى والقيارة وتلعفر وسنجار وغيرها.
وتشير مصادر من داخل الموصل، إلى أن ميليشيات مثل العصائب وحزب الله واللواء 30 وبابليون المقربة من إيران تدير عمليات تهريب النفط والابتزاز ضد السكان وتفرض إتاوات على التجار وأصحاب المحلات ما يدفعهم إلى مغادرة الموصل ونقل أعمالهم التجارية والتوجه الى مدن كردستان العراق.
ولم يتم غلق المقرات العسكرية والمكاتب الاقتصادية لهذه الميليشيات حتى اليوم على الرغم من الوعود الحكومية المتكررة بغلقها.
وكان محافظ نينوى عبد القادر الدخيل أعلن في شهر نيسان الماضي، أن “إدارة المحافظة خاطبت رئيس الحكومة محمد شياع السوداني بطلب لنقل مقرات الحشد الشعبي خارج المدينة”.
وأضاف أن “الطلب تضمّن كذلك نقل مقر قيادة عمليات نينوى (الجيش الحكومي) في منطقة القصور الرئاسية وسط الموصل، إلى منطقة السلامية في ناحية النمرود جنوب شرق الموصل، إضافة إلى نقل تشكيلات عسكرية أخرى إلى خارج المدينة”.
وشدد الدخيل على أن الطلب المقدّم بهذا الشأن يأتي في محاولة من مجلس محافظة الموصل ” لتعزيز الواقع المدني في الموصل، ومنحها الصورة التي تميزها تجاريًا وسياحيًا واقتصاديًا، وإعادة استثمار المواقع السياحية في منطقة الغابات التي باتت مناطق عسكرية مغلقة بسبب تواجد مقرات الحشد الشعبي والجيش فيها، ما يمثّل عائقاً أمام استثمارها كمناطق سياحية متميزة”.
في المقابل يرى الباحث المختص بشؤون محافظة نينوى نوزت شمدين آغا أن “أنشطة المكاتب الاقتصادية، لا سيما التي تتبع للميليشيات، لا يستطيع أحد وقفها ابتداءً من رئاسة الوزراء وانتهاءً بمحافظ نينوى، وذلك لأن سلطة هذه الفصائل أقوى من الدولة نفسها”.
وأضاف شمدين آغا أن “دليل ذلك أن الكثير من المسؤولين المحليين في نينوى وجهت إليهم تهم بالفساد وبعضهم جرت محاكمته، كالمحافظ الأسبق نوفل العاكوب، لكن الفصائل لم يجرؤ أحد على محاسبتها على الرغم من تورطها بعمليات الفساد”.
وتابع الباحث المختص بشؤون محافظة نينوى الذي أنجز سابقًا تحقيقات بشأن الاستيلاء على الأملاك في نينوى أن “ملف العقارات يعد مسرحًا لعمليات وأنشطة المكاتب الاقتصادية للفصائل منذ العام 2017”.
وبيّن أن هيئة النزاهة فتحت التحقيق بـ2888 عقارًا جرى الاستيلاء عليها في نينوى من قبل الفصائل والعصابات العقارية، بعد أن نجحت الفصائل في بيع آلاف الأراضي بعد تغيير جنسها في التسجيل العقاري.
ويؤكد أن تلك الميليشيات تورطت أيضًا في الاستيلاء على عقارات تابعة للدولة، من خلال دخولها شريكًا خفيًا في أعمال الجمعيات الخاصة بتوزيع وبيع الأراضي الزراعية في السنوات الماضية.
ويستفز انتشار الميليشيات ومقراتها في الموصل الأهالي على اعتبار أن تلك الجهات لا تمثل المؤسسة العسكرية التي يعرفها سكان المدينة من جهة، وأن تحركاتها تهدف إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من جهة أخرى.
من جهته، يرى الباحث السياسي وعضو جمعية العلوم السياسية في جامعة الموصل مصطفى العبيدي أن محاربة المكاتب الاقتصادية لن تنجح من دون وجود إدارة حقيقية لدى حكومة بغداد.
وأوضح أن ما تحدث به محافظ نينوى عن المكاتب الاقتصادية لا يعدو كونه تصريحات إعلامية، وأن المحافظين السابقين كانوا على دراية بأنشطة المكاتب الاقتصادية للفصائل والأحزاب، لكن لم يجرؤ أحد على وقف أنشطة تلك المكاتب.
وأكد أن الأمر بالنسبة للمحافظ الحالي شبيه بالفترات السابقة، ولن يكون للدخيل القدرة على مواجهة تلك المكاتب التي تمتلك النفوذ السياسي والسلاح والمال.
ويخشى الكثير من سكان الموصل من تعرّض المواقع التابعة للميليشيات المسلحة لضربات جوية على غرار ما حدث في بغداد وبابل والأنبار خلال الأشهر الماضية.
وفي هذا الصدد يقول الباحث السياسي مصطفى العبيدي، أنّ “تلك الفصائل شنّت خلال الفترة الماضية هجمات صاروخية من محافظة نينوى باتجاه القوات الأمريكية في سوريا، وذلك دليل على أنها متواجدة في عموم مدن نينوى ومنها الموصل، وأنها تستخدمها منطلقاً لأعمالها وأنشطتها العسكرية.
ويرى العبيدي أنه من الصعوبة إخراج تلك الفصائل من الموصل، ولكن من الممكن أن يتم نقل مقر هيئة “الحشد” وأمن الهيئة إلى مناطق أخرى”.
وتساءل عن سبب وجود هذه الفصائل إن لم تشترك في عمليات استعادة الموصل، لو لم تكن غايتها البقاء لأغراض سياسية واقتصادية وعسكرية.
وخلص الباحث السياسي بالقول “المرجح أن تلك الفصائل جاءت إلى الموصل لتبقى”.