أخبار الرافدين
د. علي القحيص

عادت الكلاب تنبح من جديد!!

كلما تمر مناسبة ذكرى ثورة العشرين المجيدة في العراق، التي قام بإشعالها أبطال العشائر العربية العراقية من كل الطوائف والمنابت والمناطق ومعهم الشعب العراقي كله بكل فئاته ودياناته ومذاهبه وأصوله، تظهر لنا نتوءات وأصوات شاذة ربيبة للمحتل، تندد وتشكك بذلك الفعل البطولي الوطني المشرف الذي قام به الشعب العراقي العربي الموحد كله ضد الاحتلال الإنجليزي قبل أن تأتي الطائفية والمذهبية على ظهر دبابة المحتلين والغزاة لتمزق نسيج المجتمع العراقي إربا..إربا.
حيث هب الشعب العراقي بتلك المرحلة بصوت واحد وحمل السلاح ضد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1920 من أقصى شماله إلى جنوبه، وشرقه وغربه حتى طردوا المحتل ونال العراق كرامته واستقلاله الوطني بشرف وفخر متوج بالمعاني الخالدة التي لا تغيب ولا تنسى، وأشرقت شمس الحرية والكرامة بعد ظلام دامس دام خمس سنوات عجاف.
وأصبحت هذه الذكرى المهمة نبراسا ومنهلا ومنهجا ومبعث فخر للعرب والمسلمين والعراقيين، حين ثار الشعب على أطماع توسع وتدخل الاستعمار الإنجليزي وأدواته وأذنابه في ملحمة وطنية بطولية ملهمة. وتاريخية غير مسبوقة تتذكرها الاجيال كل عام مثل هذه الأيام.
وهي الحدث الأهم في تاريخ العراق، وقد توجت هذه المناسبة في بطون الكتب وصحائف التاريخ من قبل المؤرخين والباحثين وعلماء الاجتماع، خاصة حين أقدم واستبسل الشيخ الضرغام الفارس العربي الثائر ضاري بن محمود، شيخ عشيرة زوبع من قبيلة شمر العربية (1868- 1928)، الملقب “اخو فلوة” وأصبح بطلا ثوريا ورمزا وطنيا خالدا ومبجلا، بعد قتله ضابط الاستخبارات البريطاني في العراق “لجمن” في خان النقطة قضاء ابوغريب غرب العاصمة العراقية بغداد، الذي قال للشيخ ضاري قبل مقتله “لماذا ترفعون السلاح بوجهنا وتريدون طردنا؟” في هذه الأثناء نهض الشيخ ضاري ليقاطع حديث “لجمن” وقال له “لا تذكر يا لجمن شيعة وسنة، إننا أصحاب دين ووطن واحد وعرق واحد وأصل واحد وكلمة وأرض واحدة، وإننا متفقون ومجمعون على تشكيل حكومة وطنية بدون احتلال وتدخل أجنبي، حينئذ غضب “لجمن” وقال أنتم عشائر والأجدر بكم أن تكونوا مستقلين بعيدا عن السياسة، ثم غادر المكان غاضبا ومنزعجا!
وبعد مقتل الشيخ صبار القعود أحد شيوخ البونمر من الدليم في الرمادي، بعد أن قاوم المحتل بشراسة وقاتل قتالا عنيفا ضدهم، وهو صديق وأحد الثوار المقربين للشيخ ضاري المحمود، وكان همزة وصل بينه وبين أهل الفرات والجنوب، وحين احتدم النقاش الحاد وطال الجدال الحامي والسجال الساخن، حول تصرف القائد البريطاني “لجمن” المتهور المشين وهو المسؤول عن القوات البرية البريطانية، ووصل الحوار إلى طريق مسدود، وتجاوز الكولونيل لجمن. قال الشيخ ضاري للضابط البريطاني “ماعينت صبار”؟ يعني نريد نأخذ ثار صبار، الذي قتلتموه في الرمادي، وأوعز لابنه سليمان الضاري بإشارة ذكية متفق عليها مسبقا (شيفرة). وهو والد الدكتور الشيخ حارث سليمان الضاري، الأمين العام السابق لهيئة علماء المسلمين، رحمه الله (1941- 2015).
وأطلق الشيخ سليمان الضاري طلقتة الشهيرة مع أبناء عمه (عفن الحرج وصعب المجباس)، في حادثة خلدها التاريخ من فوهة بندقيته الخاصة نحو رأس الكولونيل لجمن، وأردوه قتيلا بالحال، بتاريخ 12 آب 1920، من بندقيته التي كان يحملها وهو على ظهر صهوة فرسه العربية الأصيلة، وبعد مقتل لجمن، فرح الشعب العراقي بهذا الخبر المهم السار، ودخلت القوات البريطانية بالفوضى والصدمة والذعر والانهيار والاستسلام وتعرضت للنهب والسلب والمداهمات من قبل الأهالي، وهزمت من العراق شر هزيمة.
وتشكلت حكومة وطنية عراقية في أكتوبر 1922، وتمت محاكمة الشيخ ضاري آل محمود محكمة صورية وتمت تصفيته في المستشفى الانجليزي بوخزة حقنة سامة من قبل الطبيب البريطاني “دنلوب” ولفظ أنفاسه الأخيرة وتوفى بالحال “رحمه الله”، تاركا تاريخا طويلا وإرثا كبيرا، ودفن في بغداد في مقبرة الشيخ معروف بالكرخ.
حسب وقائع الفيلم السينمائي العراقي الذي أنتج عام 1983، بكلفة 24 مليون دولار، أخرجه وكتبه محمد شكري جميل، ومثل بطولة الفيلم الفنان غازي التكريتي في دور شخصية الشيخ ضاري، ويعد من أهم الأفلام السينمائية العراقية.
وأطلق عليه اسم “المسألة الكبرى” يتحدث بالتفاصيل الدقيقة عن سيرة ومسيرة البطل الثائر الشيخ ضاري المحمود وكيف تصدى للاحتلال ونال سيادة وطنه، وهو الوحيد الذي حكم عليه بالإعدام؟!
وحين توفى وهوس أهل العراق هوستهم الشهيرة “ياهلال الدنيا شهالغيبة”؟ شيعوا جثمانه إلى مثواه الأخير، ودفن جسده الطاهر، لكن اسمه وفعله وتاريخه ظل خالدا ناصع البياض والشهرة دونته الكتب والدراسات والقصائد والأشعار، لم يمح أو يموت مهما حاول الحاسدون والمغرضون طمس الحقيقة!
ولكن كلما تأتي مناسبة تخليد هذه الذكرى الوطنية التاريخية، ينزعج الظلاميون ويأتي من يأتي من بعض الشراذم الصغيرة والنكرات والمندسين في صفوف الشعب العربي العراقي، منهم من يتجرأ ويستنكر مشككا بهذا العمل الجبار المدون بالوثائق والأحداث والوثائق والمخطوطات، التي خطت وكتبت بالدماء الزكية والتضحيات الجسام، لأن هناك أصوات ناقصة وأسماء صغيرة يكرهون العناوين الكبيرة والخلود، ويخجلون من الوطنية التي تعريهم وتجردهم من أقنعتهم الملونة، و يشككون بكل ما هو وطني وشريف وشجاع، لأنهم أقزام و يفتقدون تلك الصفات الحميدة الشامخة، ويعتبرونها ضدهم وعارا عليهم وشوكة بخاصرتهم لأنهم لايدركون العمل البطولي الصميمي، ويفتقدون الإرث الاجتماعي الخالد النبيل وملامح الشرف الرفيع، الذي ينتمي له الأبطال الغيارى والثوار البواسل الأحرار أصحاب المبادئ والشيم، حين ضحوا بأنفسهم من أجل الأرض والعرض. هذه الأصوات الدنيئة لديها نقص وعقد من نبراس المرجلة في زمن الانبطاح والنباح والخذلان والكذب والنفاق والتزلف والفساد، ويحاولون أن يشوهوا التاريخ الصحيح للنيل من قمم الرجال العالية، يريدون أن ينسفوا الحقائق الدامغة ويقفزوا عليها، بواسطة أصوات نكرة ومسيئة ورخيصة، تنعق كالغربان وتنبح كالكلاب المسعورة من وراء القضبان!
لأنها سجينة وأسيرة الأمراض العنصرية والطائفية المقيتة، وتعاني من عقدة الدين الحنيف والأصول المرموقة وجذور أصالة التاريخ الراسخة بالأرض.
ورغم النباح في كل عام، إلا أنهم عاجزون أن يغطوا الشمس ولا يستطيعون أن يشوهوا هذا المجد العظيم والبريق الساطع والتاريخ المشرف، الذي كل يوم يكبر وهم يصغرون، أمام هذا التاريخ المجيد الذي رسم للعراق مسارا وطنيا استراتيجيا أمام الشعوب والأمم.
هؤلاء أصوات ولدت من رحم الاحتلال عام 2003، وعاشت ونمت وترعرعت في بيئة بائسة ويائسة وعاشت كالطحالب في الزوايا المظلمة، يخجلون من أي نور ساطع و تاريخ وطني مشرف، تجمعهم الرذيلة وتفرقهم الفضيلة!
تبا لهم وتب من وقع في شراكهم المشبوهة ومستنقعهم النتن، من نماذحهم الخونة والعملاء والجواسيين والأذناب، أصحاب الوجوه الوخيمة السوداء، الذين يريدون طمس كل تاريخ نظيف، لأنهم وقعوا في مستنقع آسن ضحل وضيع ورضوا بحياة الخذلان والمهانة والدسائس بلاهوية وطنية، تحتاج هذة المستنقعات العكرة أن ترمي بحجر لكي تطفو النتانة على السطح والتخلص منها، قبل أن يغرق بها المغررون بهم، الذين لم يقرأوا التاريخ جيدا، لأن التراب يدفن كل شيء إلا التاريخ يبقى شاهدا حيا لمن صنعه!
وهنا نتذكر القصيدة الشهيرة “هز لندن ضاري وبكاها” التي هتف بها العراقيون بعد رحيله، ونسج على منوالها كثير من الشعراء:
ضاري وكل الرجال الزينه\ الماتقبل بالعيشة الشينه\ اتصدوا للراد يلاوينا\ لجمن وعلوجه تلكاها\ هز لندن ضاري وبجاها\ تاريخك حافل يا ضاري\ يقراه الأمي والقاري\ بخانِ وفلوجه وانبارِ\ نرفع رايات ونتباهى\ هز لندن ضاري وبجاها\ وكل عراقي لازم يفخرْ\ بفعلك ضاري يا غضنفر\ وأنت رمز ولازم تُذكرْ\ للجيل القادم يقراها\ هز لندن ضاري وبجاها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى