فيلم “أرواح منسية” يكشف عن أشنع جرائم القتل على الهوية التي ارتكبتها الميليشيات في العراق
مدير قناة "الرافدين" الفضائية محمد الجميلي: كثير من زعماء الميليشيات أصبحوا نوابا في البرلمان ويتحدثون في السياسة والتشريع وحقوق الإنسان والعدالة والحريات، بينما تقطر أياديهم من دماء الأبرياء.
بغداد- الرافدين
كشف فيلم “أرواح منسية” الذي أنتجته قناة “الرافدين” الفضائية الجريمة التي ارتكبتها ميليشيات طائفية مرتبطة بالحكومة في إخفاء وقتل على الهوية لآلاف العراقيين الأبرياء.
ويعتبر الفيلم الذي عرضته القناة مساء الإثنين، وثيقة تحتوي على حقائق مهمة حول أحداث تغييب الآلاف من العراقيين خلال عمليات التحرير بين عامي 2014 و2017.
وتوصل الفيلم إلى أن ميليشيات الحشد الشعبي بكل فصائله، وخاصة حزب الله، بدر، النجباء، سرايا السلام، عصائب الخزعلي، وكتائب سيد الشهداء والإمام علي، قد شنوا عمليات إبادة جماعية منظمة.
ووجه الأهالي الذين التقى بهم كادر فيلم “أرواح منسية” اتهامات مباشرة لهذه الفصائل ولزعمائها بارتكاب عمليات الاختفاء القسري.
ويقدم الفيلم اتهامات مباشرة من الأهالي تجاه الحشد الشعبي وزعماء الميليشيات، مثل قيس الخزعلي، بالإضافة إلى فرق تابعة للجيش العراقي ووزارة الداخلية.
ويعرض “أرواح منسية” قصص الناجين من الاعتقالات وكيف كانت تجربتهم مريرة، حيث عانوا من القسوة والتنكيل لأسباب طائفية. في قرية ألبو عكاش بالصقلاوية، على سبيل المثال، اختفى رجال 700 عائلة على يد ميليشيات بدر وكتائب حزب الله في عام 2016.
ويعكس الفيلم الوثائقي حجم المأساة الإنسانية التي عاشها العراقيون خلال سنوات من الصراع، ويبرز ضرورة تحقيق العدالة والكشف عن مصير الآلاف من المغيبين. من خلال الشهادات والوثائق، يقدم الفيلم صورة واضحة عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها الميليشيات والقوات الحكومية، ويطالب بمحاسبة المتورطين وتقديمهم للعدالة.
وقال مدير قناة “الرافدين” الفضائية محمد الجميلي “أرواح منسية الذي أنتجته قناة الرافدين فيلم وثائقي يسلط الضوء على مأساة المغيبين الإنسانية في العراق، ويكشف تورط ميليشيات الحشد في ارتكاب أبشع جريمة بحق آلاف المدنيين الأبرياء الذين تم اختطافهم أثناء الحرب في المحافظات التي تعرضت لسيطرة تنظيم الدولة (داعش) عام 2014، والتي سمتها الحكومة وميليشياتها بحرب التحرير، ولم يتم الكشف عن مصير أي مختطف لحد الآن”.
وأضاف “الفيلم زاخر بشهادات ذوي المغيبين عن ظروف اختطاف ذويهم، والجهات التي قامت باختطافهم، والتي لم يتم مساءلة أي جهة منها لا في القضاء ولا في البرلمان حيث تعلن الحكومة دائما أن ميليشيات الحشد تشكيلات رسمية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة، وكثير من زعماء هذه المليشيات أصبحوا نوابا في البرلمان ويتحدثون في السياسة والتشريع وحقوق الإنسان والعدالة والحريات، بينما تقطر أياديهم من دماء الأبرياء”.
وأوضح الجميلي “سبق أن أنتجت الرافدين أفلاما توثق جرائم الميليشيات مثل فيلم (الإفلات من العقاب)، وفيلم (النزوح إلى الموت)، يوثق مأساة النازحين في العراق بعد الحرب على داعش والتي مازالت مستمرة حتى اليوم، لا يتحدث عنها أحد من السياسيين إلا في مواسم الانتخابات لأغراض دعائية كحال مأساة المغيبين، وفيلم آخر مرتبط بجرائم الميليشيات أيضا هو (نكبة الموصل) يحكي مأساة المدينة وأهلها ومنارتها الحدباء الشهيرة، التي تم هدمها في الحرب هذه التي يسمونها حرب التحرير”.
وقال “لا أنسى الأفلام التي أنتجتها الرافدين والتي وثقت جرائم ميليشيات الحشد بحق ثورة تشرين التي انطلقت عام 2019 وشبابها الذين تعرضوا للخطف والاغتيال، مثل فيلم (المختطف رقم واحد)، وفيلم (الوطن حتى الموت) الذي يحكي قصة الشاب مهند القيسي الذي قتلته هذه الميليشيات في النجف، ولم يحاكم أي منتسب منها حتى اليوم”.
وأوضح كاتب سيناريو ومخرج فيلم “أرواح منسية” ياسين التميمي بأن فريق العمل أجرى مقابلات مع معظم عائلات المغيبين في المناطق المنكوبة مثل قرى الصقلاوية “الأزركية والبو عكاش” وقرى ومناطق في صلاح الدين مثل الدور والجزيرة، ومناطق تابعة لسامراء وسليمان بيك وامرلي، بالإضافة إلى مناطق في ديالى ونينوى ومناطق في شمال وغرب وجنوب بغداد.
وأكد التميمي على أن هذه القرى والمناطق فقدت معظم رجالها، ولم يتبق سوى النساء والأطفال منذ عشر سنوات.
وأضاف المخرج “سجلنا شهادات مع أكثر من مائة عائلة من ذوي المغيبين، واستمعنا إلى التفاصيل التي رافقت اعتقال أبنائهم أثناء عمليات التحرير بين عامي 2014 و2017. الوثائق والشهادات تشير إلى أن عشرات الآلاف الذين اختفوا أثناء عمليات التحرير على يد القوات الأمنية والحشد الشعبي انتهوا إلى مقابر جماعية دون أي تحقيق أو تهم، فقط لأنهم من السنة ولأنهم بقوا تحت حكم داعش”.
وكشف التحقيق الذي استمر أكثر من تسعين يومًا عن عمليات ممنهجة من قبل الميليشيات والقوات الحكومية في اعتقال وتعذيب وقتل الآلاف. الأهالي الذين التقينا بهم تحدثوا عن الظروف الصعبة التي واجهوها، وعن المهانة والظلم الذي تعرضوا له.
الاحتلال غرس بذور الانقسام وسقاها بمياه الفوضى
في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق بعد عام 2003، بدأت رحلة العراقيين نحو الكوارث، حيث غرست دبابات الاحتلال بذور الانقسام وسقتها بمياه الفوضى. تحت قيادة نوري المالكي، تحولت سياسات الفساد والقمع الطائفي إلى كارثة جديدة، مع حكم استمر لثمانية أعوام، أرسى أسسا لانقسام عميق وجراح دامية. ومع تولي حيدر العبادي دفة الحكومة، في الثامن من أيلول 2014 استمرت اللعبة الطائفية، وظلت الميليشيات، المرتبطة بإيران، تنسج خيوطها حول الأحداث، مُضيفة فصلاً جديدًا لقصة العراق المأساوية. تحت وطأة هذه السياسات، كانت مأساة عشرات الآلاف من المغيبين قسراً تأخذ شكلها، مُعلنة عن جرح لا يندمل في قلب العراق.
وبين عامي 2015، و2017 تحولت مناطق كانت مهد الحضارات، بمباركة الجيش الحكومي وقوات التحالف، إلى مسرح للدماء والانتقام الطائفي. فالوعد بالتحرير من تنظيم داعش -الذي سيطر على نحو ثلثي مساحة المدن العراقية- غابت خلف سحابة سوداء من العنف، والدمار.
ومع اجتياح المدن وبداية الاشتباكات، والتكتيكات العسكرية المتهورة لم تميز بين مقاتل وطفل، بين مسلح وامرأة، تُرك المدينون، محاصرون بين مطرقة داعش وسندان الجيش والميليشيات الطائفية، ووجد السكان أنفسهم في مرمى معركة لم يختاروها.
في مسار العمليات العسكرية التي كان يُفترض أن تحرر مناطق العراق من سيطرة داعش، واجه الأهالي، المنكوبون بالفعل من ويلات الحرب، مأساة جديدة، وهي مأساة اخفاء وخطف الرجال والشباب قسريا على يد القوات النظامية وميليشيات الحشد الشعبي التي رفعت شعار “جئنا لنحرركم.”
وسرعان ما تبددت هذه الأحلام، حينما تحول المحررون إلى جلادين، يعتقلون الرجال والشباب، ليخفوهم في غياهب المعسكرات السرية وفي المقابر الجماعية.
حسب شهادات بعض الناجين، كانت الأيام التي أمضوها في الاعتقال تمثل تجربة مروعة، حيث كان الظلم والقسوة والخوف يملأ كل لحظة، وجرى التنكيل بهم لأسباب طائفية.
في قرية البو عكاش، التابعة لناحية الصقلاوية تجسدت واحدة من أكثر الحكايات مأساوية في قصة المغيبين في عام 2016. حيث كان اختفاء رجال 700 عائلة على يد قوات الحشد الشعبي بقيادة ميليشيات بدر وميلشيات اخرى أبرزها كتائب حزب الله.
وتشير كل المؤشرات لتورط ميليشيات الحشد الولائي المحسوب على إيران في هذه الجريمة، حيث كانت هناك نيات مدبرة من قبل قادة هذه الألوية التي يتواجد معها عناصر من الحرس الثوري الإيراني على راسهم قاسم سليماني
وفي فصل آخر من فصول المأساة التي تلفّ قضية المختفين قسرًا، تبرز قصة محزنة في محافظة صلاح الدين، وتحديدًا في ناحية الدور. بعد انسحاب تنظيم داعش بالكامل من المنطقة، شنّت مجموعات مسلحة تابعة لعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي حملة مداهمات على العائلات، واعتقلت حوالي 300 رجل بوعود بإعادتهم سريعًا إلى منازلهم. ومع ذلك، تبخرت هذه الوعود، واختفى هؤلاء الرجال قسرًا لأكثر من عقد من الزمن، تاركين وراءهم عائلات تغرق في بحر من اليأس والحزن، وهي تنتظر عودة أحبائها المفقودين وتطالب بالكشف عن مصيرهم.
وتكتنف قصص الاختفاء القسري لعشرات الآلاف من المدنيين غموضًا شديدًا في الموصل. بعد تحرير العديد من المعتقلين الذين كانوا رهن احتجاز تنظيم داعش، واجهت عائلاتهم واقعًا قاسيًا؛ إذ اختفت الغالبية العظمى منهم بعد تحريرهم.
وتشير أصابع الاتهام من قبل الأهالي إلى تورط الميليشيات في هذا الاختفاء القسري.
ولا تقتصر المأساة العراقية على الاختفاء والتغييب، بل تتعداها إلى استغلال الأحزاب والكيانات السياسية لهذه القضية كأداة تجارية عند الحاجة. ففي كل انتخابات، تبرز هذه القضية في أجندات القوى السياسية العراقية التي تدعي الاهتمام بالملف، لكنها تتجه سريعًا نحو مواضيع أخرى بمجرد انتهاء الانتخابات وحصدها للأصوات ومكاسبها من التعامل مع هذه القضية الإنسانية
وتواجه الحكومة في العراق اتهامات من منظمات حقوقية محلية ودولية بشأن تواطؤها أو عدم قدرتها على محاسبة الميليشيات التي تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي. وأبرز هذه الميليشيات، ميلشيا العصائب، بقيادة قيس الخزعلي وميلشيا بدر بقيادة هادي العامري، وكتائب الإمام علي، والنجباء، وسريا السلام، وكتائب حزب الله العراقية وكتائب سيد الشهداء وسرايا الخرساني وسرايا عاشوراء وجند الإمام وغيرها من الميليشيات التي تشكلت بعد عام 2003 و تُتهم بالمشاركة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية، الاختفاء القسري، وعمليات قتل لعشرات الالاف من العراقيين على أسس طائفية.
وتؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن العراق من البلدان التي فيها أكبر عدد من المفقودين، إذ تقدّر اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي وبيانات هيئة علماء المسلمين في العراق أن العدد قد يتراوح منذ عام 2016 إلى 2020 بين 250 ألفًا ومليون شخص، 2014.
ويُقدّر عدد المختطفين والمغيبين في الانبار بأكثر من 25.000 شخص، أما في العاصمة بغداد، وتحديدًا في مناطق مثل أبو غريب والتاجي والطارمية والراشدية والمحمودية واليوسفية، التي شهدت سيطرة تامة من قبل الميليشيات لسنوات طويلة، يتجاوز عدد المغيبين عشرات الآلاف. وفي ديالى يقدر العدد أكثر من 27.000 مختطف ومغيب أما في محافظة صلاح الدين، تشير التقديرات إلى وجود حوالي 12.000 مغيب. في محافظة التأميم، يُقدّر عدد المختطفين والمغيبين بأكثر من 3.000 شخص. بينما في محافظة نينوى، ومعظمهم في الموصل، يُقدّر العدد بحوالي 8.000 مغيب.
وتُسلّط هذه الأرقام الضوء على المأساة التي تواجه العراق فيما يتعلق بالاختفاء القسري وحقوق الإنسان.
في بداية عام 2023 خرج رئيس البرلمان العراقي السابق محمد الحلبوسي في مقابلة متلفزة، داعيا إلى اعتبار المغيبين، وخصوصا من مناطق شمال العراق وغربه، مغدورين، لتتعالى أصوات ذويهم؛ إن كان رئيس البرلمان يعرف أن مصيرهم القتل فلماذا لا يخبروننا؟ لماذا لا نعرف من قتلهم؟ لماذا لا يتحدّد مكان دفنهم؟
في سياق البحث عن مصير المختفين قسريًا، تم العثور على مقابر جماعية تحتوي على جثث متحللة تعود لمدنيين في عدة مناطق بمحافظة الأنبار، بما في ذلك منطقة قريبة من معسكر طارق بالقرب من مدينة الفلوجة. كما تم اكتشاف مقابر مماثلة في أطراف بغداد، خاصة في مشروع الطاقة الروسية بمنطقة صدر اليوسفي ومنطقة القصر الأسود جنوبي العاصمة.
ويعكس اكتشاف هذه المقابر الجماعية مأساة إنسانية عميقة، حيث يتجلى فيها مصير مروع للعديد من الأشخاص الذين اختفوا دون أثر. رغم هول الاكتشاف، لم يتم التحقيق بشكل كافٍ في هذه الجرائم، مما يترك أسر الضحايا والمجتمع بأسره في حالة من الحزن والغموض دون إغلاق أو عدالة.
وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي بدأ تنفيذه في الأول من تموز 2002، يعتبر “الإخفاء القسري” جريمة ضد الإنسانية عندما يتم ارتكاب هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد المدنيين، ولا تسقط بالتقادم. الأمم المتحدة، من خلال اتفاقية 2006 لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، تحمل الحكومات مسؤولية هذا الانتهاك وتطالب بكشف مصير المختطفين ومحاسبة المجرمين. إذا فشلت الحكومات في هذا، يحق للأمم المتحدة التدخل. على الرغم من انضمام العراق للاتفاقية في 2010، فإن الحكومة في بغداد غير ملتزمة عمليًا بتنفيذها.
ومضت عشرة أعوام، تحولت فيها الدقائق إلى ساعات، والساعات إلى أيام، والأيام إلى سنوات من الانتظار والأمل بمعرفة الحقيقة. الحقيقة المرة، التي بدأت تلوح في الأفق، تشير إلى أن المغيبين قد تم إعدامهم ودفنهم في مقابر جماعية سرية، دون محاكمة أو حتى وداع أخير.
وفي محاولة يائسة لطي صفحة مأساوية دون قراءتها، لجأت الحكومة إلى استراتيجية قاتمة وهو فتح ملف التعويض من اجل السكوت. ويرمي النظام الحاكم في العراق إلى دفع عائلات المغيبين إلى حافة اليأس، محولاً مطالبهم المشروعة بكشف مصير أبنائهم ومحاسبة الجناة، إلى مجرد رغبة في الترضية بمبالغ مالية على شكل رواتب لا قيمة لها.
ويصب هذا النهج الحكومي في مصلحة الجهات المتورطة بجريمة الاختفاء القسري، ويعمل كغطاء يضمن استمرار سياسة الإفلات من العقاب.
قصة المخفيين قسرا في العراق ممزوجة بدموع الأمهات وآهات الآباء وأنين الأطفال، ليست مجرد قصة من الماضي، بل هي واقع مستمر يعيشه الأهالي يوميا في الانبار والموصل وديالى والتأميم وصلاح الدين وبغداد، كل يوم يمر هو تذكير بالفراغ الذي خلفه الغائبون، وكل لحظة تمر هي استفهام حاد يطرق أبواب الضمير الإنساني.
لا شك أن كل دمعة ستكون شاهدة على الظلم، وكل صرخة ستكون دعوة للحقيقة والعدالة. لن يكون النسيان مصير هؤلاء الغائبين، فالذاكرة حية، والحقيقة ستظهر، والعدالة، مهما طال الزمن، ستأخذ مجراها.