أخبار الرافدين
تقارير الرافدين

المولدات الكهربائية تتسبب بمخاطر بيئية تهدد أرواح العراقيين وسلامتهم النفسية

فشل الحكومات المتعاقبة بعد 2003 في توفير الطاقة الكهربائية دفع العراقيين إلى الاعتماد على مولدات تفتقر لشروط السلامة وتتسبب بانبعاثات غازية تهدد سلامتهم فضلًا عن تسببها بهدر المياه والضوضاء.

بغداد – الرافدين
تحول اعتماد المواطن العراقي على المولدات الكهربائية الأهلية كبديل وحيد لسد العجز المتزايد في التجهيز إلى سبب إضافي للتلوث البيئي جراء المشاكل الكثيرة التي تعتري عمل هذه المولدات على الرغم من مساهمتها في التخفيف من معاناة انقطاع الكهرباء.
ويعتمد العراقيون على المولدات الكهربائية لتأمين ساعات إضافية من الكهرباء، بعد تدمير البنى التحتية وشبكات الطاقة خلال العدوان الثلاثيني في تسعينات القرن الماضي وبعد هدر الفساد الذي كرسه الاحتلال الأمريكي وحكوماته المتعاقبة لمليارات الدولارات على هذا القطاع دون جدوى.
ومع تقادم عمر المحطات الكهرو-مائية فضلًا عن التزايد السكاني والتوسع في استخدام الأجهزة الكهربائية وعلى رأسها المكيفات باتت الكهرباء الوطنية عاجزة عن تلبية حاجات المواطنين ما اضطرهم إلى اللجوء للمولدات الأهلية التي تحولت شيئًا فشيء إلى سبب رئيس لإلحاق الضرر بالبيئة العراقية ليشمل ضررها تلوث الهواء وهدر المياه فضلًا عن الضوضاء.
ويشير تقرير لوكالة الطاقة الدولية إلى أن حاجة العراق للكهرباء تبلغ 40 ألف ميغاواط لتأمين احتياجاته عدا الصناعية، بينما تُقدر قدرته الإنتاجية بنحو 32 ألف ميغاواط، وهو غير قادر على توليد اكثر من نصفها، وذلك بسبب شبكات النقل غير الفعالة التي يمتلكها.
وأدى هذا العجز الى بقاء سوق المولدات الأهلية نشطًا، بالرغم من أن غالبيتها قديمة وتصدر محركاتها المتهالكة دخانًا أسودًا (دقائق الكربون) إضافة إلى الضوضاء العالية، بسبب عدم التزام الكثير من أصحابها باستخدام ما يعرف بكاتم صوت المحرك.
وأسهمت عوادم هذه المولدات وبنحو كبير في التلوث البيئي وتهديد صحة السكان، لاسيما أن ارتفاع أسعار الديزل يدفع أصحاب بعض المولدات الى استخدام النفط الأسود ما يضاعف نسبة التلوث وبالتالي المخاطر الصحية.
وتستهلك هذه المولدات كميات كبيرة من المياه لتبريد محرّكاتها، ناهيك عما تلفظه من زيوت، إلى جانب الأخطار التي تنجم عن ملايين الأمتار من الروابط الكهربائية العشوائية بين محطات التوليد والمنازل والمتاجر.

عوادم المولدات الكهربائية والغازات المنبعثة منها تتسبب بأمراض مزمنة للعراقيين

ويحذر المركز العالمي للخدمات الاجتماعية، وهو من منظمات المجتمع المدني، في بيان له صدر مطلع العام الحالي، من أن 45 بالمائة من سكان العراق معرضون للإصابة بالأمراض بسبب تلوث الهواء بالانبعاثات الناجمة من مولدات الكهرباء.
ويرجح المركز في بيانه “تفاقم حالات الإصابات والتلوث البيئي في السنوات القادمة بسبب رداءة بعض المولدات وعدم مطابقتها للمواصفات الفنية والبيئية”.
وجاء في البيان، أن مولدات الكهرباء وبمختلف أحجامها تنتشر في الأماكن العامة، وعلى الأرصفة وفي الأحياء السكنية وفوق أسطح المنازل والمؤسسات والمعامل ودور العبادة “وهي تنفث الادخنة الخطرة طوال 24 ساعة في اليوم”.
ونبه البيان إلى أن انبعاثات المولدات تلوث الهواء بأكثر من 40 مادة سامة بما في ذلك العديد من “المواد المسببة للسرطان أو المشتبه بتسببها بالمرض” وأن مثل هذه الملوثات قد تؤدي الى زيادة أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب والأوعية الدموية.
ويذكر المركز أن انبعاثات المولدات تسبب في حدوث الأمطار الحمضية التي تلحق الضرر بالنبات وتسمم المسطحات المائية، منبها إلى أن “مولدات الديزل (غالبية المولدات في البلاد) تولد انبعاثات أكبر تأثيرا على المناخ من محطة توليد الطاقة العاملة بالغاز الطبيعي”.
ودعا المركز في بيانه إلى مبادرة وطنية لدعم الطاقة وتقليل الانبعاثات، وضرورة الزام أصحاب المولدات بوضع “فلاتر منقية للكاربون، وعدم استخدام النفط الأسود لما يسببه من كوارث بيئية على المجتمع”.
ويجمع السكان في المواقع القريبة من هذه المولدات على تسببها بأضرار بيئية بالغة لاسيما الأضرار الصحية والنفسية.
ويعزو المواطن محمد حسين (54 عامًا) سبب اضطراره إلى بيع منزله الكائن في حي الرئاسة شرقي العاصمة بغداد صيف 2023 إلى معاناته من ضجيج وأدخنة مولدة الكهرباء الديزل المجاورة لسور منزله الخارجي الذي أنهار جراء الإهتزازات الناتجة عن عملها المستمر وهي تمد منازل الحي بالكهرباء مقابل أجور شهرية.
وانتقل محمد، إلى منزل آخر جديد اشتراه في منطقة الدورة جنوبي العاصمة، دون تقديم شكوى ضد صاحب المولدة، لأنه كما يقول، واثق من أن أطرافاً عشائرية ستتدخل كما يحدث في قضايا مماثلة أو يتقدم عليه المشتكى عليه بخطوات معتمداً على علاقاته برجال الأمن أو الحشد، ولن يحصل على شيء “غير العتب وقطع الكهرباء عن منزله” على حد قوله.
وأضاف وهو يحرك يديه يمينًا ويسارًا “بل قد يحملونني مسؤولية انهيار جدار بيتي والتأثير على مسار خطوط الكهرباء، ليتوجب علي تسديد مبلغ من المال إليهم”.
وطوال ثلاث سنوات عانى محمد من التلوث السمعي الذي سببته مولدة الكهرباء وآثار انبعاثاتها على صحة العائلة، ناهيك عن برك المياه المختلطة بالديزل التي تحدثها عملية تبريد محركها في الزقاق، وكلها أسباب دفعته للبحث عن مكان آخر للعيش في العاصمة التي تنقطع الكهرباء الوطنية عن أحيائها لنحو 12 ساعة يومياً على الرغم من ان الحكومات المتعاقبة صرفت 80 مليار دولار لتأمينها خلال عقدين بحسب خبراء.
وفي ذات دوامة المعاناة يقول ثائر جاسم (25 عامًا) وهو موظف في أمانة العاصمة ويسكن شرقي بغداد إن “سكان المنازل المجاورة للمولدات وأنا منهم يعانون من الانسداد الدائم في مجاري الصرف الصحي، نتيجة الكميات الهائلة من مياه تبريد المولدة التي تطلق إليها، وهي مختلطة في العادة بالزيوت والوقود”.
ويضع سبابتي يديه في أذنيه في إشارة للضوضاء التي تسببها المولدة “أدمغتنا ستنفجر، لكن لا حيلة بأيدينا”.
وينظر إلى المولدة والتي كانت قد بدأت بالعمل للتو والدخان يتصاعد من عادمها معلقا بالقول إن “هذه المولدات وجدت لحل مشكلة الكهرباء، فخلقت العديد من المشكلات الأخرى، بعضها تهدد صحة الإنسان”.
ويتابع بنبرة مرتفعة وهو يمسح قطرات عرق علقت على جبينه “إنها كارثة وطنية مستمرة منذ فترة طويلة، ولا أعتقد بأنني ساعيش لأرى اليوم الذي تزال فيه، ونستمتع بالكهرباء دون ملوثات وضوضاء كالبشر في باقي دول العالم”.
بدورها تعاني زهراء (18 عامًا) وهي طالبة في الصف السادس الإعدادي، تسكن في حي 9 نيسان شرقي بغداد، من متلازمة حساسية الصوت الإنتقائية، وهي حالة من العصبية الزائدة والاضطرابات وتعكير المزاج عند الاستماع للأصوات المرتفعة وهو ما يجبرها على عدم الخروج الى باحة المنزل أو حتى من غرفتها بسبب ضجيج مولدة الكهرباء القريبة من منزل عائلتها.
وتقول وهي تضع يديها على اذنيها “لا أستطيع التركيز في الدراسة عندما تعمل المولدة، لهذا فأنا أشعر براحة كبيرة عندما يأتي التيار الوطني أو تتوقف المولدة لسبب ما، وتزيد فرحتي عندما تتعطل وأدعو من كل قلبي أن لايتم إصلاحها أبداً، وأفضل البقاء في الحر ووسط الظلام على سماع صوتها”.
وتعليقًا على حالة زهراء، يقول حسين اللامي، الذي يحمل شهادة دكتوراه في علم النفس و الفلسفة، إن هناك علاقة بين التلوث الضوضائي و تدهور الصحة النفسية.
ويوضح اللامي أن “التلوث الضوضائي يسبب أعراضا مرضية ليس فقط لدى الانسان فحسب، بل حتى لدى الحيوان والنبات، فيقل انتاج الدجاج من البيض والحليب بالنسبة للابقار ويدفع الى هجرة الطيور، كما يؤثر على النمو النباتي وعملية التركيب الضوئي”.
ويعرف التلوث الضوضائي بأنه خليط متنافر من الأصوات ذات استمرارية غير مرغوب فيها، وتقاس عادةً بمقاييس مستوى الصوت، والديسيبل أو الوحدة اللوغاريتمية وهي الوحدة المعروفة عالمياً لقياس الصوت وشدة الضوضاء.
ووفقًا للدكتور حسين اللامي فإن متلازمة حساسية الصوت تعد “حالة يعاني فيها الشخص من كراهية للأصوات المزعجة، وبالنسبة إلى الكثير من المصابين قد تكون هذه الحالة سيئة إلى درجة أنها تدفعهم للتفكير في الانتحار”.
ويشير الدكتور في علم النفس و الفلسفة إلى اختلاف تأثير الأصوات من شخص لآخر “فقد يعاني البعض من التعب والإرهاق العصبي و الشعور بالضيق والتأثر العاطفي السريع وكثرة الشكوى والتاثيرات العصبية الفسيولوجية المؤثرة على الانتاج والتي تزيد من نسبة الأخطاء و تنقص القدرة على التركيز وأداء الأعمال الذهنية و العقلية”.
ويذكر أن الأمر قد يتفاقم، فتؤدي الضوضاء الى فقدان السمع المؤقت أو الدائم “بعض الدراسات العلمية توصلت إلى أن الضوضاء تؤثر على القدرة الذهنية للفرد مما يؤدي الى الاجهاد الذهني وعدم القدرة على الاستيعاب والتعلم، لذا يشكل التعرض المستمر لأصوات المولدات الأهلية خطراً مباشراً على المصابين بمتلازمة حساسية الصوت الانتقائية.

يجمع السكان في المواقع القريبة من المولدات الأهلية على تسببها بأضرار بيئية بالغة لاسيما الأضرار الصحية والنفسية

وبحسب الأرقام فإن معاناة محمد حسين و موظف الأمانة ثائر جاسم والطالبة زهراء، هي ذاتها معاناة عشرات الآلاف من سكان المنازل المجاورة لـ 14 ألف مولدة كهرباء أهلية تعمل على الديزل في بغداد، ونحو 49 ألف مولدة تعمل بالوقود الاحفوري في عموم محافظات العراق.
ويكشف مسح أجراه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، وأعلنت نتائجه في آذار 2023، عن العدد الإجمالي للمولدات الأهلية في عموم البلاد والتي بلغت 48533 مولدة، تغذي 6 ملايين و700 الف مشترك بإمدادات الطاقة الكهربائية وسط تشكيك بهذه الأرقام وحديث عن وصول العدد الإجمالي للمولدات إلى اضعاف هذا الرقم.
ويرى الناشط المدني معتز ماجد، أن أعداد المولدات الأهلية أكبر بكثير من الرقم الذي تقدره الجهات الرسمية “ربما يشمل هذا الرقم (49 الف) المولدات المسجلة والتي تأخذ حصص وقود شهرية من دائرة المشتقات النفطية”.
ويتابع “لكن في الحقيقة فإن كل مشروع صناعي أو زراعي أو متعلق بالثروة الحيوانية، حتى لو كان صغيرا، مزود بمولدة كهرباء ولا يمكنه الاستغاء عنها”.
ويضرب ماجد مثالًا على ذلك، بالقول أن حقول تربية فروج اللحم، مخازن التجميد والتبريد، معامل العلف، مفاقس البيض، مجازر الدجاج، المعامل الأخرى الإنتاجية، محطات المياه، وغيرها”، كلها تمتلك المولدات الكهربائية الخاصة بها.
وبناءًا على ذلك يرجح أن تصل أعدادها الى 100 ألف مولدة، فضلًا عن مولدات الكهرباء الصغيرة العاملة بالبنزين، التي يقول بأنها منتشرة بنحو كبير، وتسهم جميعها بالتلوث البيئي، إلى جانب ما يفرضه تشغيلها من تكاليف مالية.
وتتفق تقارير منظمات دولية على أن تيار الإنارة الذي تنتجه مولدات الطاقة الأهلية، ليس بلا ثمن، خاصة أن نسبة كبيرة منها تم استيرادها من أسواق الخردة العالمية -وفق وزارة البيئة في العراق- ومن مصادر صناعية غير موثوقة، أو أعيد تأهيلها، مما يعني بحسب خبراء البيئة افتقارها لكثير من معايير السلامة والتجهيز الصحيح.
وتصنف منظمة “آي كيو إير” المعنية بقياس جودة الهواء، العراق على هذا الصعيد، ضمن 20 دولة هي الأكثر تلوثًا على مستوى العالم.
ووجدت شبكة “غرين بيس” المعنية بقضايا البيئة في تقييمها الأثر الصحي والتكلفة الاقتصادية لاعتماد بلدان الشرق الأوسط على الوقود الأحفوري أن التلوث الحاصل في الهواء له علاقة مباشرة بزيادة الإصابة بأمراض القلب الإفقاري والانسداد الرئوي المزمن وسرطان الرئة والسكتة الدماغية.
في المقابل يتخلف العراق عن الاستثمار بمصادر الطاقة المتجددة، للاستغناء عن الوقود الاحفوري، في الوقت الذي يلجأ سكانه لمولدات الديزل والبنزين أو للشبكات الجماعية الخاصة برغم ارتفاع تكلفة الاشتراك بها، وشدة مخاطرها على البيئة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى