استثمار زائف في ديمقراطية مملة
لم يكن للحرب في يوم ما “فضيلة” تتركها على الناس على مدى التاريخ، لكن في حرب الإبادة والتجويع في غزة، يمكن لنا أن نقتبس مفردة “فضيلة” عندما نتحدث عن تعرية الزيف التاريخي لحرية التعبير والمثل والمعايير الديمقراطية، في أرفع الدول التي تستخدم الديمقراطية كاستثمار سياسي.
الصوت المغاير من داخل تلك الدول التي تعرض بضاعتها الديمقراطية على دول العالم الأخرى وعما تريده منها أو تفرضه عليها! كان يمتلك فضيلة هتك هذا الزيف الديمقراطي وضمان حرية التعبير، بمجرد أن طالب بارتفاع الصوت الإنساني الرافض لمذبحتي القتل والتجويع في غزة.
تحولت غزة إلى “سجن مفتوح”، من دون أن ترعى دول الاستثمار الديمقراطي آراء أولئك الذين في العالم لا يرون الأمور كما يراها الغرب.
لقد عرضت علينا الأشهر الماضية أمثلة مثيرة من وسائل الاعلام الغربية والمواقف السياسية عن هتك حرية التعبير، أو رفض الايمان بها بمجرد إدانة إسرائيل على جرائم الإبادة في غزة، أو بتعبير وزير الخارجية الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيلبان عندما قال إنّ الأحداث الحالية تجري تحت أعين وأنظار العالم الذي لا يرى الأمور كما نراها (الغربيون).
ذلك ما يجعل من الديمقراطية مريضة ولا أحد من “الديمقراطيين”! يريد نقلها إلى المصحة أو على الأقل تقديم العلاج لها، وفق الصحافي الأمريكي توماس فريدمان وهو يتأمل مستقبل بلاده، بأن الحقيقة وحدها هي القادرة على إنقاذ ديمقراطيتنا بعد أن عمل البيت الأبيض على تطبيع الكذب بشكل خطير وشيطنة الصحافة ونعتها بالبذرة السامة.
بيد أن حرب غزة وضعت حرية التعبير تحت الاختبار، وكل ما جرى يكشف لنا الفشل الذريع لتطبيق معايير الحرية. لكن ماذا لو أصبح المدافعون يتعاملون مع حرية التعبير كغاية في حد ذاتها، ويفوّتون فرصة ما يجعلها قيمة إنسانية وسياسية وإعلامية كبيرة؟
في غياب البنية الأساسية المناسبة، فإن سوق الأفكار الذي يتمّ التّباهي به كثيرا لا يساعدنا في الوصول إلى الحقيقة والأرضية المشتركة، بل أصبح بدلا من ذلك مكبّر صوت لضجيج فارغ. ووسط هذا النشاز، يمكن استغلال مبدأ حرية التعبير في ترويج الأكاذيب بشكل مخز كما يحدث اليوم في تبرير قتل المدنيين في غزة واقتحام المستشفيات وتجويع الأطفال.
الهدف الأساسي من حرية التعبير وفق الكاتبة جيميما كيلي المهتمة بالحروب الثقافية هو السماح لنا نحن البشر، المخلوقات المحدودة التي لن تكون قادرة تماما على فهم الحقيقة أو الوصول إليها بشكل كامل، بالتحرك في اتجاهها على الأقل. ومن خلال إعطاء صوت لمن لا صوت لهم، وبالسماح ببث وجهات النظر غير المتداولة، فقد نتمكن بطريقة أو بأخرى من شق الطريق صوب نوع من التفاهم المشترك.
لكن المزيج الغريب للمزاعم عن الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان في الصوت السياسي الغربي، كانت مملة ومخيفة بنفس القدر، ووصلت إلى ما يمكن تسميته بـ “تفاهة الفوضى” عندما سقطت المعايير الأخلاقية أمام وحشية قتل وتجويع الأطفال في غزة.
لقد استخدمت تلك “الديمقراطيات العريقة” الغذاء كسلاح قاتل في العراق على مدار 13 سنة، وها هي اليوم تغض النظر عن نفس عملية التجويع وتكتفي بالتعبير المجرد عن “الحزن” وفق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إزاء ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة. فهل التعبير عن الحزن بأي قدر كان يكفي لإيقاف تجويع أهالي غزة؟
هذا المعيار الإنساني المزدوج، يعبر عن مكون تعامل الغرب عندما يتعلق بدول أخرى ففي عام 2018، وصف ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين في إدارة دونالد ترامب آنذاك، تكتيكاته الإعلامية بأنها “إغراق المنطقة بالقذارة”.
وبعد عقود من حديث النظم الغربية عن السياسة الخارجية القائمة على “القيم” و”التدخل الإنساني في شؤون الدول الأخرى” و”المسؤولية عن الحماية” و”النظام القائم على القوانين” وغير ذلك من الشعارات المثيرة للجدل، يشعر أنصار هذه الشعارات في الغرب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه نفاق السياسات الخارجية لحكوماتهم، عندما تدافع عن المدنيين “هنا” وتتجاهل قتلهم “هناك” وعندما تقوم بشكل مخز بإيجاد الذرائع لنتنياهو في قتل الأطفال بغزة.
تجسد ذلك النفاق بشكل مغرق بالهزل في عملية اسقاط مساعدات أمريكية على الجياع في غزة، وكأن إدارة الرئيس جو بايدن غير قادرة على فرض قوتها على المشهد هناك وتلجأ إلى إسقاط تلك المساعدات في عرض تلفزيوني فضائي مكشوف للرأي العالم.
أو بتعبير الباحث مالدين مردالج في مقال نشرته مجلة “ناشونال إنتريست الأمريكية” “إن النفاق الليبرالي السائد بشأن القدرة على احترام حقوق الإنسان لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين يميل ناحية إسرائيل. وقبل ذلك والأكثر أهمية هو أن المصالح المتعارضة تتجه ناحية مصلحة إسرائيل وإن كان بصعوبة، مثل استقطاب العرب بعيدًا عن روسيا والصين وتقليل الغضب العالمي المؤيد للفلسطينيين واحترام الترسانة النووية الإسرائيلية”.