أوروبا نحو الهاوية؟
في المشهد والحدث الجاري في أوروبا، فنحن إزاء انتخابات ديموقراطية بين أحزاب وتيارات سياسية.
وفي مضمون الحركة السياسية، فأوروبا تشهد صعودا للتيارات الفاشية والنازية والقومية والشعبوية والعنصرية المتطرفة، بل شديدة التطرف، التي سبق أن أوصلت أوروبا والعالم إلى حربين عالميتين. وهذا الصعود يأتي بقرار تصويتي “حر” من جمهور المجتمعات لا بانقلابات عسكرية. وحسب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون فهذا الحدث يهدد بلاده بحرب أهلية. وحسب المستشار الألماني أولاف شولتز، فأوروبا وصلت نقطة تحول حرجه في المشهد السياسي.
لقد تقدمت تلك التيارات في عموم أوروبا، لتطيح بالتيارات التي حكمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذلك يوصف ما يجري بالتحول التاريخي.
وهناك على الضفة الأخرى من الأطلسي، لا يختلف المشهد السياسي عن مس الجنون الذي أصاب أوروبا. هناك مرشحين طاعنين في السن للرئاسة الأمريكية. جاءت المناظرة الأولى بينهما فارغة من المضمون السياسي وفاقده لأي عمق خلافي، ومليئة بالمهاترات حول عمر أحدهما ومغامرات الآخر النسائية، حتى أنك تتعجب وتقول لنفسك: كيف لهذا البلد أن يتحكم في مصير دول وشعوب العالم.
هل هي أزمة سياسية عابرة؟
الأمر ليس كذلك. فالحاصل أن الغرب المتمثل بأوروبا والولايات المتحدة دخل مرحلة الانحدار الحضاري، وبات في حاله أشبه بقطار بلا كوابح ينزلق على منحدر ثلجي في الجبال.
لسنا أمام مشهد لأزمة سياسية.
والفارق بين الأزمات السياسية للدول، والانحدار الحضاري للمجتمعات، يتمثل في تدهور المنظومات القيمية والمعنوية والنفسية والدينية وفي انقسام المجتمع الواحد وتضاد مكوناته إلى درجة التعادي، فلا تكون له مرجعية جامعة.
الأزمات السياسية، يمكن أن تجد الدول لها حلول طال أمدها أو قصر. فكم من دول خسرت حروبا أو شهدت خلافات وصراعات سياسية حادة بين نخب الحكم فيها أو تعرضت لظروف اقتصادية صعبه، لكنها تغلبت عليها وخرجت لتواصل سيرها، إذ كانت مجتمعاتها في وضع صحي يسمح لها بمواجهة مثل تلك الأزمات بنجاح.
أما الانحدار الحضاري الذي تبلغه المجتمعات، فلا يجري إصلاحه إلا بعد أحداث جسام أكثرها شيوعا هو الحرب الأهلية وقيام الثورات، ومن خلالها أو بعدها تصل المجتمعات إلى طريق فكري وديني ومعنوي ونفسي ومرجعيات جديدة، تخرجها من حالة الانحدار، وتجدد قدرتها على النهوض مجددا.
المجتمعات الأوروبية مريضة. فقدت صوابها وخرج من داخلها من يدفعها للعودة إلى أسوا ما مرت به خلال تاريخ تجربتها الإنسانية. والأسوأ أن الشعوب تصوت لهؤلاء!
وهذا هو جوهر المأزق الحالي.
فهؤلاء القادمين الجدد إلى الحكم في أوروبا، هم “حركات ضد”. ممارساتهم تدفع نحو صدامات مجتمعية على أسس دينية وعرقية، وشعاراتهم وطنية “قومية حسب التعبير الأوروبي” تتماهي مع الفاشية والنازية. وهم لا يطيقون حتى أصحاب الجنسيات الأوروبية الأخرى، وليس المنحدرين من أصول عربية وإسلامية وأفريقية فقط.
وهؤلاء أصحاب رؤية تفكيكية للدول القائمة.
ومواقفهم تنذر باحتمال هدم أكبر منجز حققته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فالإتحاد الأوروبي الذي تعتبره جماعات عديده- من هؤلاء- أداة لسلب الهوية الوطنية “القومية” لبلادهم، مثل الحل التاريخي لمنع اشتعال الصراعات والحروب التي شهدتها أوروبا طوال قرون. هو كان الأساس لعدم تكرار مآسي الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكان الأساس لتحول أوروبا لقطب دولي ضمن ظاهرة تعدد الأقطاب في العالم.
ولذلك يجب على الدول العربية والإسلامية متابعة هذا الانحدار الأوروبي.
لقد دفعت دول العالم ثمنا باهظا لنهوض أوروبا وشعارات الحرية والمساواة، إذ أنتج هذا النهوض ظاهره الاستعمار المقيتة التي كانت شعوبنا ودول منطقتنا أول ضحاياها. وشعوبنا ودولنا كانت قد دفعت قبلها ثمن بقاء أوروبا دولا متخلفة، حيث شنت أوروبا الهمجية على أمتنا ما سمى بالحروب الصليبية أو حروب الفرنجة.
الآن يجب ألا ندفع ثمنا جديدا في مرحلة انحطاط أوروبا.
والأمر لا يتعلق فقط بما سيجري ضد المهاجرين على الأراضي الأوروبية، بل بنتائج وانعكاسات تلك التحولات على السياسات الخارجية الأوروبية.
يجب متابعة نتائج هذا الانعطاف المتجدد نحو التطرف والنازية والفاشية والقومية العنصرية، ومتابعة تأثيراته وانعكاساته على التوازنات الدولية.
لقد كان العنوان الأعلى في الحرب الباردة هو الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا على أوروبا. وهي كانت حربا بارده في أوروبا ودموية في مختلف أنحاء العالم. فماذا لو غابت أوروبا الموحدة؟ وما التغيير الذي ستشهده التوازنات بين دولها، لو انتهي وجود الإتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن القول بأن الدولة الوطنية “القومية” ستعود لتشغل العالم بصراعاتها البينية؟ هل سنشهد صراعات بين الدول الكبرى الأوروبية على الدول الأصغر؟ وهل سيكون للدول الصاعدة في العالم “الصين وروسيا والهند” تأثير على الأوضاع في أوروبا؟ هل سنشهد مثل هذا التغيير التاريخي.
أحداث كبرى ستشهدها أوروبا التي تتحول من مركز استقرار عالمي إلى مركز اضطراب.