البنك المركزي العراقي يفشل مجددًا في السيطرة على سعر صرف الدولار
خبراء اقتصاديون يشككون بجدوى التصريحات الحكومية والإجراءات الخجولة في كبح جماح الدولار، في ظل ارتباط هذا الملف بملف تهريب الدولار للدول المحضورة لاسيما إيران.
بغداد – الرافدين
أعاد ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار مجددًا الحديث عن جدوى الإجراءات الحكومية في الحد من تهريب العملة الصعبة إلى إيران بعد سلسلة عقوبات أمريكية صارمة شملت مصارف وشركات صرافة في ظل تخبط في إدارة القطاع المالي والمصرفي في العراق.
وسجلت الأسواق المحلية في الأيام الماضية ارتفاعًا ملحوظًا في سعر الصرف بعد ان وصل إلى نحو 150 ألف دينار مقابل كل 100 دولار في السوق الموازي بعد أشهر من استقراره عند عتبة 140 ألف دينار.
ويعاني العراق من أزمة انخفاض قيمة الدينار وهو ما يؤشر الى أن اقتصاده لا يزال هشًا، ومع أن محافظ البنك المركزي الحالي علي العلاق تحدث عن إجراءات تم اتخاذها لتحقيق الاستقرار في سوق العملة النقدية لكن الواقع يؤكد أن الأزمة ما زالت تراوح مكانها.
وعزا خبراء اقتصاديون ارتفاع سعر صرف الدولار من جديد إلى جملة عوامل مازالت فاعلة ومؤثرة في ظل فشل البنك المركزي في تفكيك الأزمة وتفعيل الحلول الناجعة لها.
وقال الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي إن “ما حصل في الفترة الماضية هو مجرد تأجيل للحظة انهيار الدينار أمام الدولار، من خلال تخدير الأسواق باستقرار وهمي نتيجة بيع ضخم للدولار يمكن ان ينخفض بشدة مع أي قرار من الفيدرالي يقلب الطاولة على إجراءات المركزي ، وهذا ما حصل اليوم”.
وأضاف الهاشمي في منشور له على منصة أكس أن ” المركزي العراقي لم يتمكن بعد مضي أكثر من 18 شهر على أزمة أسعار الصرف من تفكيك وحل مشكلة أسعار الصرف، حيث لا تزال عوامل ارتفاع أسعار الصرف فاعلة ومؤثرة”.
وبين أن “أسعار صرف الدولار مرشحة للارتفاع أكثر، بعد منع الفيدرالي الأمريكي لحوالات العراق باليوان الصيني، بسبب شبهات التهريب وغسيل الأموال والإحتيال المالي”.
وتابع الخبير المالي “من المتوقع ان يسبب هذا المنع ارتفاع الطلب على الدولار النقدي داخل الأسواق الموازية، وهذا ما قد يدفع المركزي العراقي للعودة لتطبيق إجراءات أكثر تشدداً تزيد حالة القلق والإضطراب في الأسواق”.
وسبق أن ارتفعت أصوات حكومية من جهات ذات علاقة في الملف الاقتصادي دعت إلى تنويع سلة العملات واستحصال عائدات النفط بعملات عالمية أخرى غير الدولار لاسيما اليوان الصيني لتفادي تأثيرات العقوبات الاقتصادية.
إلا أن هذه الدعوات قوبلت بالتشكيك نظرًا لهيمنة واشنطن على عائدات النفط واقتصاد العراق بعد الاحتلال بشكل عام.

ويصنف العراق في قائمة الدول المستوردة لأغلب منتجاتها، في اعتماد كبير على الدولار الذي يُعد عملة ثانية في البلاد، ما يعني أن أي تغييرات في سعر الصرف، تنعكس بشكل مباشر على السوق والحركة التجارية.
وبسبب الاعتماد الكبير على استيراد البضائع تحول البلد على مدار عقدين إلى معبر لعمليات تهريب كبيرة “للدولار” تحت غطاء الاستيراد الذي بات بحسب مراقبين “ثقبًا أسودًا” لاستنزاف الأموال الصعبة وتحويلها إلى دول مثل لبنان وإيران عن طريق “مزاد بيع العملة”، في خطوة منظمة تهدف إلى كسر الحصار الاقتصادي والعقوبات الأمريكية على إيران ودعم حزب الله في لبنان.
وتعرف نافذة بيع العملة عبر مزاد الدولار الذي يشرف عليه البنك المركزي “بنظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، لكن قلما كُتب عن آليات عمله الداخلية.
وتتمحور الفكرة الأساس لمزاد العملة المتعلق “ببيع” الدولار إلى المصارف وشركات تحويل الأموال لإدارة عملية استيراد البضائع وتتراوح “مبيعاته” من الدولار يوميًا بين 200 و 300 مليون دولار، لكن شبهات عدة تُطاول شخصيات سياسية نافذة وزعماء ميليشيات وشخصيات مرتبطة بمرجعيات دينية تقف خلف تلك المصارف لإدارة عمليات الفساد.
ويقدر خبراء الفارق بين حجم الحوالات إلى الخارج وبين قيمة البضائع الداخلة بـ 30 مليار دولار بينما يصف متخصصون بالاقتصاد مزاد العملة بأنه واجهة لاستنزاف للدولار وفرصة لبعض المصارف التي تمتلكها جهات نافذة، لتحقيق أرباح كبيرة من خلال ببيع كميات كبيرة من الدولارات يوميًا، تفوق حاجة الاقتصاد العراقي ولا يعود منها كبضائع إلا بنسب لا تتجاوز الـ 40 أو 50 بالمائة في أفضل الأحوال والباقي يهرب إلى دول الجوار لاسيما إيران.
ومع تزايد السخط في الشارع العراقي يحمل ناشطون ومواطنون حكومة محمد شياع السوداني مسؤولية ما وصلت إليه ظروفهم المعيشية من عجزهم عن تلبية متطلبات عائلاتهم بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، لعدم إيفاء الحكومة ببرنامجها الذي ألزمت نفسها به عند تشكيلها بعد أن تعهدت بإعادة التوازن للوضع الاقتصادي.
وانتقد ناشطون الحلول الترقيعية وما عدوه كذبًا مفضوحًا للهروب من تحمل المسؤولية وللتغطية على الفشل المستمر منذ واحد وعشرين عامًا من المسؤولين الحكوميين.
وسبق وأن حث رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني العراقيين على عدم اقتناء الدولار، قائلًا إن “الدينار هو الأقوى” قبل أن تكشف الأشهر اللاحقة زيف هذه التصريحات.
وأخفق السوداني خلال لقائه مع مسؤولين في وزارة الخزانة الأمريكية وبعض البنوك، في زيارته الأخيرة إلى واشنطن في الحصول على وعد برفع البنوك العراقية من قائمة العقوبات الأمريكية.
وخلال لقاء السوداني مع وكيل وزارة الخزانة الأمريكية والي أدييمو، ونائب رئيس بنك “جي بي مورغان” دانييل زيليكو، بحضور محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق، حاول السوداني تقديم صورة عن سيطرة حكومته على تهريب الدولار إلى إيران.
ولم يقتنع المسؤولون الأمريكيون بالذرائع التي قدمها السوداني، حيث استمع إلى جملة تكررت كثيرا من قبل المسؤولين الأمريكيين بأن “على حكومته فعل الكثير من أجل إيقاف تهريب الدولار إلى إيران”.
وقال السوداني للمسؤولين الأمريكيين إنه لا يمكن العمل في أي قطاع تنموي دون خطوات إصلاحية للقطاع المصرفي، وضرورة المضيّ في الحوار مع الخزانة الأمريكية والبنك الفدرالي الأمريكي، وصندوق النقد الدولي، والمؤسسات المالية الدولية الأخرى.

ومنذ مطلع العام الماضي، دخلت واشنطن على خط أزمة تهريب الدولار لخارج العراق، وفرضت شروطًا على البنك المركزي، أبرزها خضوعه لنظام سويفت العالمي، وتقليل مزاد العملة، حيث تراجعت مبيعاته من 300 مليون دولار يوميًا إلى نحو 30 مليون دولار فقط في بداية الأزمة، قبل أن تعاود الارتفاع مؤخرًا.
وجرى فرض عقوبات على نحو 28 مصرفًا، ومنعها من التعامل بالدولار وحجب دخولها لمزاد العملة، بسبب تورطها بتهريب الدولار.
وفرض البنك المركزي العراقي تحت وطأة الضغوط من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي سلسلة عقوبات على مصارف وشركات خاصة كان آخرها حظر 197 شركة من الدخول إلى نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية.
ووجّه البنك المركزي في 2 حزيران 2024 كتابًا بالعدد (269/8/9) حمل توقيع نائب محافظ البنك، عمار حمد خلف، إلى المصارف المجازة كافة، يبلغها بقرار إيقاف دخول الشركات إلى نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية.
وعلى الرغم من حظر العديد من المصارف والشركات إلا أن البنك المركزي العراقي متهم بمنح مصارف خاصة تمتلكها الميليشيات والأحزاب الولائية تسهيلات للحصول على العملة الصعبة عبر مزاد العملة بطرق احتيالية تتجاوز العقوبات الأمريكية ومساعي واشنطن في تجفيف موارد إيران من العملة الصعبة.
وسبق وأن كشفت وثيقة موجهة إلى البنك المركزي صادرة عن هيئة النزاهة، عن عملية فساد تتعلق بمنح المركزي العراقي قروضًا كبيرة لأصحاب المصارف الخاصة، تم استغلالها من قبلهم لشراء الدولار من مزاد العملة، وليس لإنشاء مشاريع استثمارية، كانت مقررة كسبب لحصولهم على القروض.
وبينت الوثيقة أن البنك المركزي تجاهل قرار محكمة تحقيق الرصافة المختصة بقضايا النزاهة وغسل الأموال والجريمة الاقتصادية، القاضي بإجراء التحقيق الإداري وتحديد الضرر بالمال العام.