أخبار الرافدين
تقارير الرافدينحكومات الفساد في العراق

حياة سكان البصرة وسلامتهم على المحك جراء الانبعاثات الغازية من الحقول النفطية

شهادات خطيرة حول تأثير إحراق الغاز المصاحب لاستخراج النفط على حياة السكان في المناطق القريبة من حقول النفط وتسببها بارتفاع معدلات الإصابة بالأورام السرطانية والأمراض التنفسية.

البصرة – الرافدين
يمثل التلوث البيئي في البصرة تهديدًا كبيرًا للسكان حيث تؤدي عمليات استخراج وتكرير النفط وما يرافقها من إحراق للغاز المصاحب إلى انبعاثات سامة تسهم في زيادة معدلات السرطان والأمراض التنفسية في المدينة الغنية بالنفط جنوبي العراق.
وعلى الرغم من انضمام العراق عام 2017 إلى مبادرة عالمية أطلقها البنك الدولي تقضي بوقف حرق الغاز بحلول 2030 إلا أنه لا يزال ثاني أكثر دولة تحرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط عالميًا.
وتتصدر البصرة إلى جانب نينوى والفلوجة بعدد المصابين بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية لدى الرضّع جراء مخلفات الحروب والتلوث البيئي الذي يعد النفط وعمليات تكريره سببًا رئيسًا من أسبابه.
وبحسب تقارير صادرة عن وزارتَي الصحة والبيئة، فإن المعدل السنوي للإصابة بأمراض السرطان في العراق يبلغ 2500 حالة إصابة، لكن الواقع يشير إلى أكثر من ذلك بكثير، إذ إن عدد مرضى السرطان في المستشفيات أضعاف هذا الرقم.
ولا تملك الجهات الرسميّة المتخصصة في العراق أرقامًا دقيقة لعدد مرضى السرطان، إلا أن بعض التقارير الدولية تتحدث عن أعداد مرتفعة، حيث سجلت البصرة وحدها أكثر من ألف إصابة بالسرطان عام 2023 فضلًا عن ارتفاع نسبة أمراض الرئة مقارنة بالمحافظات الأخرى.
ويرى عضو تحالف البصرة لحماية وتحسين البيئة فلاح العامري أنه لا ينبغي إنكار العلاقة بين حرق غاز النفط المسال في الحقول النفطية وانتشار بعض الأمراض.
وأوضح العامري أن “هناك علاقة بين الأمراض المنتشرة حاليًا في البصرة، بما في ذلك الفشل الكلوي وأمراض الجهاز التنفسي والسرطان وسرطان الدم، واستخراج النفط ويجب ألا ننكر هذا الأمر أبدًا”.
وبيّن أن “معدل الإصابة بالسرطان والأمراض الأخرى في البصرة أعلى من المحافظات غير المنتجة للنفط، وهذا مؤشر واضح لا يحتاج إلى مزيد من الدراسات أو البحث”.
ولفت عضو تحالف البصرة لحماية وتحسين البيئة إلى أن “ارتفاع نسبة الأورام السرطانية يمكن اكتشافه من محافظة إلى أخرى، لكن البصرة تشهد الآن حالات كثيرة”.
بدوره أكد الناشط البيئي معتز حكمت عثمان على أهمية تقليل كمية الغاز المحروق المنبعث من المنشآت النفطية ودور التصميم الهندسي في معالجة المشكلة.
وشدد على أن “تقليل الملوثات في المنشآت النفطية يجب أن يبدأ بشكل أساسي في مرحلة التصميم، وليس بعد إطلاق الملوثات الغازية التي تعاني منها البصرة”.

البصرة تسجل أكثر من ألف إصابة بالسرطان عام 2023 فضلًا عن ارتفاع نسبة أمراض الرئة مقارنة بالمحافظات الأخرى

وفي قرية نهران عمر التي تبعد 15 كم شمال البصرة، يظهر جليًا تأثير الصناعة النفطية على السكان بشكل وثيق إذ يدفع العراقيون ثمن عيشهم بالقرب من حقول النفط ومن بين هؤلاء رغد كريم، ذو الـ 44 عاما، الذي يكافح مرض سرطان القولون.
ويقول رغد كريم في أجواء تختنق بأعمدة الدخان الأسود من خلفه، إن “هذا (في إشارة إلى الدخان) هو ما نتنفس منذ سنوات، إنها أزمة دمرت السكان، سرطانات من جميع الأنواع وأمراض تنتزع أنفاسك ولم يسلم أحد بما فيهم أنا من الإصابة”.
وأضاف في تذكير صارخ بالتهديد الصامت الذي يطارد قريته منذ سنوات أنه “في 2007، توفي أخي بالسرطان، واليوم، أنا أكافح المرض، مما يجعل حياتي حرجة للغاية”.
ولا تقتصر الصعوبات التي يواجهها رغد كريم على مصيبة مرضه فحسب، فعندما تم تشخصيه بمرض سرطان القولون تغيرت حياته وانقلبت رأساً على عقب إذ أصبح يكافح لتحمل تكاليف الرعاية الطبية والعلاج الكيميائي الباهظ، والذي سافر إلى لبنان من أجله لأنه لم يكن متاحاً في بلده، فبدون دعم من مؤسسة حكومية أو خيرية أُجبر رغد كريم على تمويل علاجه بنفسه.
وتمكن رغد كريم، بفضل الديون ويد عون الأصدقاء، من إجراء عملية جراحية استطاع بها أن يزيل الورم ومع ذلك، فإن احتمالية عودة السرطان ما تزال مرتفعةً فهو بحاجة إلى أدوية واختبارات متابعة مستمرة لضمان التعافي الكامل من المرض، ولكن تكلفة الجراحة قد استنزفت موارده مما وضعه وعائلته تحت ضغط وتوتر كبير.
ويضيف كريم، إن “العديد من الناس الذين أعرفهم في قرية نهران عمر يخشون زيارة الأطباء خوفاً من إخبارهم بأنهم مصابون بالسرطان وهذه معركة نفسية يواجهها الجميع هنا يومياً إذ يمكنني القول إن السرطان في حيّنا مثل الأنفلونزا، منتشر بشكل صادم”.
وتجمع مصادر سياسية وهيئات دولية على أن نظام الرعاية الصحية الفاسد في العراق، يعكس بشكل واضح فشل أسلوب الحكم والعجز عن التغلب على الصراعات السياسية حتى وصل الحال بمرضى السرطان إلى عدم المقدرة على تأمين نفقات علاجهم في بلد يعاني من نظام صحي هش ومتهالك.

علي حسين جلود ضحية الإهمال الحكومي وجشع شركات النفط

ويبدو أن الخطر من حرق النفط ليس محدودًا بمنطقة نهران عمر فحسب، إذ إن التلوث يؤثر أيضًا على مناطق أخرى حول البصرة، وأهمها الرميلة، التي تضم أحد أكبر حقول النفط في العالم.
ويعد حقل الرميلة النفطي، والذي يقع في جنوب العراق على بعد 50 كم غرب البصرة والذي يستخرج يوميًا 1.5 مليون برميل وممثلًا ثلث إمدادات النفط في البلاد وثالث أكثر الحقول إنتاجية في العالم، شريان الحياة لاقتصاد العراق.
ففي نيسان من العام الماضي، فقد علي حسين جلود، شاب من البصرة، معركته مع سرطان اللوكيميا عن عمر يناهز 21 عامًا.
وتعتقد عائلة علي، التي تعيش بالقرب من حقل نفطي كبير تابع لشركة BP البريطانية في الرميلة، أن الاحتراق المستمر للغاز ساهم في إصابته بالمرض ووفاته في النهاية.
وجرى تشخيص علي بالمرض عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، وشمل علاجه عدة جولات من العلاج الكيميائي وزرع نخاع العظم والعلاج الإشعاعي داخل وخارج العراق.
وكان علي ماهرًا في كرة القدم وحَلُمَ بأن يصبح لاعبًا محترفًا، كما أنه كان يمتلك متجرًا صغيرًا لبيع الهواتف المحمولة وملحقاتها في قريته قبل أن يبدد السرطان حلمه وينهي حياته بعدما تعرض وسكان آخرون في الرميلة للغاز المحترق على بعد أقل من 2000 متر من منازلهم وهذا يتعارض بشكل صارخ مع القانون النافذ في العراق، الذي ينص على أن تكون المناطق السكنية ومواقع الاحتراق على الأقل على بعد 10 كم.

يعد العراق ثاني أكثر دولة تحرق الغاز المصاحب عالميًا على الرغم من انضمامه إلى مبادرة عالمية تقضي بوقف حرق الغاز 

وسبق أن أنتجت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلمًا وثائقيًا بعنوان “تحت السماء المسمومة Under Poisoned Skies”والذي أظهر ممارسة شركات النفط الأجنبية، لا سيما شركة BP البريطانية لإحراق الغاز الزائد بالقرب من المناطق السكنية.
وتناول الفيلم قصة الشاب علي حسين جلود الذي استند فيما بعد والده إلى ما ورد في الفيلم كدلائل في شكواه ضد الشركة التي يحملها مسؤولية وفاة ابنه.
ووفقًا للفيلم، تطلق عملية استخراج النفط العديد من المواد المسرطنة، مما يرتبط بزيادة مثيرة للقلق في حالات الإصابة بسرطان اللوكيميا، لاسيما بين الشباب.
وبعد تحقيق (بي بي سي) ، تم اكتشاف تركيزات عالية خطيرة من البنزين، والمعروف بأنه مادة مسرطنة، في الهواء وتتجاوز الحدود المقبولة بكثير.
ومن اللافت للنظر أن اختبارات البول للأطفال الذين يعيشون بالقرب من مواقع الحرق أظهرت أن 70 بالمائة منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين، وهو من المواد الكيميائية المسرطنة.
ويؤكد منتج فيلم “تحت السماء المسمومة” أوين بينيل، أن “الفيلم كشف دور شركات النفط الدولية بما في ذلك BP في حرق الغاز السام على بعد مئات الأمتار فقط من المناطق السكنية في العراق”.
وتابع بينيل “صحافتنا تطرح أسئلة صعبة وتحمل كل من الشركات والحكومة في العراق المسؤولية عن الحرق العشوائي للغاز، الذي له عواقب بيئية وصحية خطيرة”.
وأوضح أن “الشركات النفطية الدولية والحكومة لا تنشر بيانات عن مستويات المواد الكيميائية السامة المنبعثة من حرق الغاز لذلك، أجرينا اختبارات ووجدنا أن هناك مستويات عالية من المواد الكيميائية المسرطنة في الهواء وفي عينات بول الأطفال الذين يعيشون بالقرب من مواقع استخراج النفط”.
وأضاف “تم إبلاغنا عن أن عائلة علي بدأت قضية قانونية ضد BP بشأن حرق الغاز في العراق، وأنها تستخدم بعض الأدلة المقدمة في الفيلم كأساس لهذه القضية”.
وبين منتج فيلم “تحت السماء المسمومة” أوين بينيل إنه “كان من الصعب تصوير المجتمعات القريبة من مواقع الحرق، حيث تعرضنا بشدة للتلوث. وفي إحدى المناسبات، هبَّت الرياح جالبةً دخان الغاز المحترق باتجاهنا.
وتابع “جهاز مراقبة التلوث المحمول الخاص بنا أطلق تحذيرًا من مستويات البنزين الخطرة، ولكن كان من الواضح من الرائحة في الهواء أن التنفس لم يعد آمناً ولحسن الحظ بالنسبة لنا، تمكنا من مغادرة المنطقة، ولكن العائلات التي تعيش هناك مجبرةٌ على استنشاق هذا الهواء السام يومًا بعد يوم”.
ويكمل بينيل القول إننا “في جميع المناطق التي أجرينا فيها مراقبة التلوث، وجدنا تركيزات عالية من البنزين المسرطن، تصل إلى 9.7 ميكروغرام لكل متر مكعب ومن الجدير بالذكر أن هذا هو متوسط لمدة أسبوعين، لذا في بعض الأيام قد تكون مستويات البنزين أعلى بكثير”.
ويشير بينيل، إلى إنه “بالنسبة لعينات البول، نظرنا في مادة كيميائية مسرطنة أخرى، وهي النفثالين وأن النتائج أظهرت أن 70 بالمائة من الأطفال الذين أخذنا عينات منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين في البول، مما يشير إلى فرصة أكبر لحدوث تشوهات يمكن أن تؤدي إلى السرطان”.
وأكمل قائلًا إن “قصة علي أصبحت جزءًا مهمًا من فيلمنا حيث إن مذكراته المصورة أعطتنا نظرة حميمة على الحياة في الرميلة، وهي بلدة داخل حدود أكبر حقل نفطي في العراق والممنوعة من دخول الصحفيين إليها”.
وسبق أن طالب مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، منتصف شهر حزيران الماضي، بعقد جلسة طارئة لمجلس المحافظة بشأن واقع التلوث الخطير والتغير المناخي في البصرة دون استجابة حكومية على غرار طلبات أخرى سابقة.
وقال مدير مكتب المفوضية مهدي التميمي إننا “سبق وأن خاطبنا المجلس لعقد الجلسة لكن لم يتحقق ذلك، فيما دعا الى ضرورة متابعة مقررات مؤتمر المناخ في المحافظة والذي عقد سابقًا والعمل على مناقشة استمرار الانبعاثات و والتلوث بالمحافظة”.
وبين التميمي أن” البصرة تشهد ملوثات بيئية مختلفة، وبالتالي فإن مناقشة استمرار تداعيات هذا الامر يحتاج الى ان يعقد مجلس المحافظة جلسة تناقش هذا الأمر والحلول اللازمة لمعالجتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى