إصلاحيون تحت عمامة خامنئي
تلقفت وسائل الإعلام الغربية مفردة “إصلاحيين” القادمة إليها من طهران مع توجه الرئيس الإيراني الخامس محمد خاتمي إلى مبنى الحكومة عام 1997، واختارت أن تصف المشهد بطريقة دراماتيكية عندما زعمت أنه فضّل حافلة نقل ركاب عامة في التوجه إلى مكتبه كرئيس إيراني جديد في أول يوم عمل له! وزادت من الجرعة الإخبارية عندما بحثت له في الأرشيف عن صورة قديمة يظهر فيها بلباس “الأفندي” بلا عمامة رجل الدين وكأنها تبشر العالم بأن النظام الثيوقراطي المتشدد الحاكم بعصا المرشد علي خامنئي قد تغير، ودول المنطقة أمام إيران جديدة يقودها الإصلاحيون، من دون أن يتفق اثنان في إيران على تعريف هذا المصطلح، لكنه يبقى تسمية مغرية بالنسبة لوسائل إعلام غربية. إلى أن صار اليوم جزء من ثقافة الخطاب السائد عندما يتعلق الأمر بإيران.
تكرر المشهد نفسه مرة أخرى بعد سنوات مع الرئيس حسن روحاني، وهذا الإصلاحي المعمم أيضا قُدم لنا أشبه بلاعب كرة قدم ارتدى قميص المنتخب الإيراني وجلس أمام الشاشة يتابع مباريات كأس العالم آنذاك.
مع ذلك مرت سنوات خاتمي وروحاني الإصلاحيين من دون أن ينبسا ببنت شفة أمام سطوة المرشد خامنئي والحرس الثوري الإيراني، وعندما حاول وزير الخارجية آنذاك محمد جواد ظريف الثأر لكرامته الوظيفية المثلومة من قبل الحرس الإيراني الذي تجاوزه واتفق مع الرئيس السوري بشار الأسد لزيارة طهران ورتب الزيارة من دون أن يعلم وزير الخارجية. فكتب ظريف استقالته بطريقة “هل أنا وزير خارجية أم طرطور في دولة الحرس الثوري”؟ لم يجد بعدها ظريف غير التوبيخ الذي وصله على لسان الرئيس “الإصلاحي” حسن روحاني “أصمت واسحب استقالتك كي لا تغضب المرشد الأعلى”!
لدينا اليوم قصة قديمة عن رئيس إصلاحي جديد ومتشدد قديم من البنية الثيوقراطية الحاكمة اسمه مسعود بزشكيان، وبينما هناك ممن يعلقون شهاداتهم العليا في المراكز الاستراتيجية الدولية يتحدثون عن سيناريوهات متفائلة أكثر مما ينبغي عن زمن هذا الرئيس، لا أحد منهم يُعرّف لنا الإصلاحيين في إيران المبنية على سياسة التشدد. بيد أنه من السهولة بمكان تفنيد الفكرة التي سادت في وقت ما وارتفع منسوبها اليوم مع بزشكيان بشأن وجود إصلاحيين ومتشددين في إيران، فحقيقة الأمر أن الإصلاحيين مجرد تسمية أخرى للمتشددين بقشرة إعلامية هشة موجهة للغرب من أجل مواصلة العرض السياسي المخادع الذي تقدمه إيران منذ عام 1979.
لا يوجد لدينا في تاريخ إيران الخمينية ما يجعلنا نربت على ظهر سياسة تقدمها كدولة رؤومة على طمأنينة دول المنطقة والسلام العالمي.
وبزشكيان جزء من هذا التاريخ المتشدد منذ عام 1979، فبينما كان يقود آنذاك محمود أحمدي نجاد مجاميعه المسلحة لمهاجمة السفارات الأجنبية في طهران، كان مسعود بزشكيان يدير عملا مماثلا في المستشفيات يبدأ بفرض الحجاب قسرا على الكادر الطبي وتعليق وصايا الخميني على جدران أروقة المراكز الصحية بوصفها دروسا طبية مقدسة!
فما الذي تغير كي يكون المتشدد إصلاحي اليوم؟ في حقيقة الأمر لا شيء، وقد انتخب بزشكيان للرئاسة لأنه أحد الخيارات الأمنة للنظام المبني على التشدد، أو وفق وصف علي فايز مدير مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل، بإن بزشكيان كان “رهانا آمنا” للنظام، و”فريدا في نوعه”.
وقال “لم تكن الأصوات التي صوتت له نابعة بالضرورة من الأمل في الأفضل، بل من الخوف من الأسوأ”.
ويمكن للمرشد الأعلى أن يمنع أي شخص من تولي منصب الرئيس، كما يمكن للبرلمان أن يفعل ذلك بتعليمات من خامنئي ومن الحرس الثوري، فيما يبقى نفوذ الرئيس ضئيلا بالنسبة للمسائل الأمنية والعسكرية.
يشرف الحرس الثوري على جميع الشؤون العسكرية الإيرانية، فهذه الهيئة المسلحة خاضعة بشكل وثيق لخامنئي وهما من يقرران متى وكيف يتم استخدام القوة العسكرية المباشرة أو إطلاق العنان للوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن، والرئيس آخر من يعلم.
مسعود بزشكيان مثل أي رئيس إيراني آخر يجب أن يخرج من تحت عباءة خامنئي ونيل رضا الحرس الثوري للبقاء على قيد الحياة السياسية.
يُعبر بزشكيان بصراحة عن افتقاره إلى الخبرة الدولية لذلك لن يكون مصدر قرار بعلاقات إيران مع محيطها العربي أو في علاقاتها الدولية وهو أمر يبدد الترحيب العربي المبالغ فيه بعد انتخابه.
تقتصر أغلب صلاحيات الرئيس الإيراني على القضايا الداخلية. وحقيقة الأمر أن خامنئي، هو الذي يتخذ كل القرارات السياسية الكبرى، وخاصة في مجال الشؤون الخارجية والبرنامج النووي الإيراني.
سيكون بزشكيان نسخة أخرى من خاتمي وروحاني لكن هذه المرة بلا عمامة، ليواجه المهمة السياسية الشاقة التي لا تفلح فيها وظيفته كطبيب في علاج اقتصاد متهالك وشعب محبط للغاية، ونظام سياسي تقع أغلب السلطة في أيدي خامنئي، وحرس ثوري يعامل بازدراء كبار المسؤولين الذي يحاولون انتقاد سياساته.
وهذا ما عبر عنه أحد كبار الدبلوماسيين الغربيين في طهران لصحيفة فايننشيال تايمز بالقول “نحن نستمع إلى كلمات بزشكيان باهتمام كبير، لكن زمن الكلمات قد انتهى. نحن بحاجة إلى رؤية أفعال، فالعلاقات لن تتحسن إلا بعد التغيير في المجالات التي لم يكن للرئيس سيطرة كبيرة عليها”.
بينما اختصر الواقع سائق سيارة أجرة في طهران بالقول “كانت الأصوات التي حصل عليها بزشكيان مشروطة. وإذا فشل في تحسين حياتنا، فسوف يسترد الناخبون أصواتهم من خلال الاحتجاجات”.