الفساد يأكل خبز العراقيين وأمنهم الغذائي
تسويق محصول الحنطة يتحول إلى باب للثراء الفاحش وفرصة مثالية لنهب المال العام من قبل متنفذين ومكاتب اقتصادية للميليشيات عبر طرق احتيالية تهدد سلامة العراقيين وأمنهم الغذائي.
بغداد – الرافدين
استغرب مراقبون ومختصون من استمرار موسم تسويق الحنطة في السايلوهات الحكومية في وقت انتهى فيه حصاد المزارعين من المحصول وسط حديث عن استفادة مافيات من استمرار عمليات التسويق بعد جلبهم الحنطة من الخارج للاستفادة من فارق السعر بينها وبين الحنطة المحلية فضلًا عن تلك المتضررة التي يعاد تدويرها وإدخالها للمخازن بطرق احتيالية.
وتتمثل ممارسات الاحتيال في مواسم تسويق الحنطة بعدة أشكال، من بينها رفض حنطة الفلاحين لدفعهم إلى بيعها بأسعار بخسة أو إعادة تسويق حنطة المواسم السابقة او المخزونة، أو تهريب الحنطة من خارج البلاد بأسعار مناسبة وإعادة بيعها على الدولة بسعر 850 الف دينار مقابل الطن الواحد بما يفوق أسعار المحصول عالميًا للاستفادة من سعر الدولة المدعوم.
ويتسبب السعر المرتفع والمدعوم الذي تدفعه الدولة مقابل طن الحنطة، والذي يفوق الأسعار العالمية لسعر الحنطة، بنشاط عمليات الاحتيال والفساد، بسبب العائدات المالية الكبيرة في وقت ترجح فيه وزارة التجارة أن تبلغ كلف شراء الحنطة من الفلاحين نحو ستة ترليونات و630 مليار دينار عراقي، أي ما يزيد عن 5 مليارات دولار.
ويؤكد مصدر من داخل وزارة التجار أن من يشرف على عملية الفساد هذه مجموعة من التجار ورجال الأعمال ممن يرتبطون بالمكاتب الاقتصادية للميليشيات عقب استيرادهم محصول الحنطة التي تصل أسعرها إلى 400 دولار للطن أو مايعادل 500 الى 600 ألف دينار عراقي في أحسن الأحوال وإدخالها عبر التهريب إلى العراق، ومن ثم الاصطفاف أمام السايلوهات لبيعها للدولة في موسم التسويق بالسعر الرسمي على انها حنطة من إنتاج محلي في تواطؤ مع الجهات المسؤولة لتسهيل عملية الاستيراد والتسويق.
ويبين المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه ومنصبه أن هؤلاء التجار ومن يقف خلفهم يحققون ربحًا لايقل عن 250 الف دينار عراقي لكل طن.
ويشير المصدر إلى أن الأرباح المتحصلة من بيع مليون طن على سبيل المثال للدولة من خلال الحنطة المهربة لاتقل عن 250 مليار دينار في غضون فترة قصيرة وهو ما يدفع بالعديد من المتنفذين إلى الدخول على خط الفساد هذا الذي تحول بمثابة فرصة للتربح سنويًا إضافة إلى عمليات غسيل الأموال.
بدوره يكشف النائب أمير المعموري عن طرق احتيالية أخرى تمارسها المافيات تتعلق بملف تسويق الحنطة وعمليات الاحتيال والفساد التي تُمارس لخداع الدولة والاستفادة من الأموال الضخمة المخصصة لشراء الحنطة
ويشير المعموري إلى أنه خلال الزيارات المستمرة لمواقع استلام وشراء الحنطة، تم تشخيص مخالفات عديدة بعمليات الاستلام، وواحدة من تلك الأمثلة هو ان أحد المخازن في بابل استلم كميات من الحنطة وعند إتمام فحصها من قبل اللجنة المرسلة من وزارة التجارة تم اكتشاف ان هذا المحصول ليس محصول العام الحالي بل يعود إلى سنوات سابقة وكان مخزونا طوال تلك المدة.
ولفت المعموري إلى إنه ” في حال كانت النقاوة أقل من 95 بالمائة و الرطوبة اقل من 6 بالمائة للحنطة عند خضوعها للفحص فإن هذا يعني أن هذه الحنطة تعود لسنوات سابقة، وهي أما خرجت من مخازن الدولة ذاتها وذهبت لمخازن أخرى للمتاجرة بها، او انها مهربة من الخارج، للاستفادة منها.
وتساءل “كيف دخلت او تدخل هذه الأنواع المشبوهة من الحنطة الى المخازن في الوقت الذي من المفترض ان هناك مراقبًا حكوميا متواجدًا في الحقل وعندما يتم تحميل الشاحنة بالحنطة يتم قفلها بأقفال خاصة لايمكن فتحها الا في مخازن او سايلوهات التسويق، فكيف عبرت هذه المسألة على جميع اللجان ودخلت هذه الحنطة”.
وفي حالة أخرى، أوضح المعموري أنه “عندما ذهبنا الى مخازن الصويرة، وجدنا حنطة حمراء، يعني حنطة معفرة مسمومة تم استقبالها مع كميات الحنطة الأخرى السليمة”.
وبين أن “الحنطة الحمراء معناها انها مستلمة من الدولة وتم شراؤها مسبقًا، فكيف خرجت من المخازن وتم بيعها الى الحكومة مرتين”.
وأكد المعموري أن “بعض الشركات التابعة لوزارة التجارة أخفت هذه الإحالات بطرق مبتكرة، عبر إخفاء المادة المعفرة وتبديل الأقفال وغيرها من الإجراءات”.
وكشف كذلك عن حالة أخرى بعد العثور على حنطة تالفة في شهر شباط 2024 في أحد المخازن تبلغ قيمتها 15 مليار دينار وتحتوي على إصابة حشرية نتيجة الخزن غير صحيح.
وبين النائب البرلماني أن “المسؤولين كافحوا الإصابة الحشرية بيوم واحد وأخرجوا الحنطة في شهر آذار 2024 باسم أحد الفلاحين لبيعها وتسويقها إلى مخازن أخرى”.

في المقابل رفض الفلاح عدنان الشمري صفقة تقوم على تزويده بكميات من الحنطة المهربة من خارج البلاد والبذور المعفرة (تمت معالجتها لمقاومة الأمراض خلال طور النمو) وغير المعفرة في مقابل تحميلها وبيعها إلى وزارة التجارة التي تشتري القمح المحلي من المزارعين بسعر مجزٍ من أجل دعمهم.
وجاء العرض في توقيت صعب على الشمري، إذ تعرض إنتاج الموسم الحالي لأمطار غزيرة أتلفت كميات كبيرة، بسبب الرطوبة التي أصابته بالآفات الحشرية بالإضافة إلى عدم فعالية المبيدات في مكافحتها، وهو ما تكرر مع جيرانه الذين رفضوا العرض وفضلوا عدم الحديث عن هوية مقدميه خوفًا من التبعات الأمنية والقانونية.
لكن آخرين قبلوا، إذ وضعت السلطات الحكومية المختصة يدها خلال الموسم الحالي على 2500 طن من الحنطة المعفرة والتالفة أو التي أنتجت بمواسم سابقة أو بذور وزعتها وزارة الزراعة على الفلاحين من أجل زراعتها، أثناء محاولة بيعها وفقًا لمصادر مسؤولة.
ويتسبب هذا النوع من الحنطة بأضرار صحية بالغة على حياة المواطن فضلًا عن تسببه بعمليات هدر كبيرة للمال العام.
ووفقًا للطبيب بلال نعمان، المختص بالطب الباطني فإن طحن القمح المعفر أو المصبوغ وغير المطابق للمواصفات، أو المحتوي على مبيدات يترتب عليه مخاطر صحية كبيرة.
ويؤكد الطبيب المختص أن احتواء الناتج المطحون على الفوسفات العضوية (إسترات حمض الفوسفوريك) يسبب سميّة عصبية تؤدي لألم في الأطراف والوخز وقد يتطور إلى شلل حركي.
ويتابع “أما المبيدات الحشرية ومن بينها مالاثيون وباراثيون وفينثيون ودورسبان وديازينون وكلوربيريفوس، والسارين وهو أحد غازات الأعصاب الصناعية المستخدمة في قتل الحشرات، تترك أعراضًا متنوعة على البشر في حال تناول مواد ملوثة بها كاحنطة، ومنها حدوث تراجع معدل نبضات القلب وعدم انتظامها وانخفاض حاد بضغط الدم، واختلاجات يضيق معها التنفس، وتدميع في العين، وتشوش الرؤية، وانسكاب اللعاب والتعرق الشديد والسعال والقيء وتكرار التبرز والتبول بأوقات متقاربة جدا”.
وتحتاج السوق المحلية سنويًا حوالي 4.2 مليون طن لتحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول الحنطة ويضاف نحو مليون طن مستورد يخلط لأغراض الجودة مع القمح المحلي الذي لا تتوفر فيه مادة الجلوتين بالنسبة المطلوبة، وفق وزارة التجارة.
وبلغت كمية الحنطة المسوقة، خلال العام الماضي، 4.2 مليون طن بالمقابل بلغت كمية الطحين والحنطة المستوردة من تركيا واستراليا وأمريكا، 2.1 مليون طن وبلغ معدل الطحين في السوق المحلية 1420 دينار للكيلو غرام الواحد.
ولم تكتمل فرحة العراق في تخطيه مرحلة تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول الحنطة هذا العام بنحو 8 ملايين طن قبل أن تبدد مافيات الفساد حلم العراقيين بالاكتفاء الذاتي عبر السرقات الممنهجة والمدروسة للإضرار بأمن البلاد الغذائي.