التصفيق الهستيري في زيارة الوداع
كان الخطاب أمام الكونغرس، خطاب لقاء الوداع.
ولم يكن التصفيق المتكرر بعصبية إلى درجة الهستيريا، ترحيبا به أو بما يقول، بل كان وداعا له ولزمن بقاء في الحكم طال وتمدد، حتى انطلقت معركة طوفان الأقصى، فحان وقت رحلته الأخيرة ولقاء الوداع له ولدوره.
الكل يدرك ذلك. انتهى زمن نتنياهو.
وانتهى زمن سطوة اللوبي الصهيوني المطلقة على النخب والجمهور في الولايات المتحدة.
وكل هذا التصفيق الهستيري كان محاوله للتغطية على تلك التحولات التي برزت بقوة خلال هذه الزيارة.
لقد تساءل كل متابع عن دلالات تلك الحالة المبالغ فيها من التصفيق إلى درجة النوبات العصبية، خلال إلقاء نتنياهو خطابه أمام الكونغرس. ما هذا؟ هل هو احتفاء بما يقول وهو لم يقل إلا كذبا؟ وهل التصفيق كان لإعلان التصديق على الكذب؟ أم أن الجميع كان يدرك أنها النهاية لنتنياهو وأن زمن السطوة الصهيونية انتهى، وأن نتنياهو لن يعود مجددا.
لم تكن تلك الحالة على هذا النحو إلا لإخفاء التغيير الذي حدث سواء لنتنياهو وكيانه أو للتحول الحادث في موقف النخب والمجتمع في الولايات المتحدة.
لقد رفض عدد تتراوح تقديراته بين 80 و112 عضو من اعضاء الكونغرس “نواب وشيوخ” حضور الجلسة والاستماع للخطاب المليء بالأكاذيب والتلفيقات، وهو ما جعل نوابا داعمين للتحرك والجلوس في مقاعد في مناطق بدت خاليه في القاعة.
وتلك سوابق لم تحدث من قبل في الخطابات الثلاث السابقة لنتنياهو أمام الكونغرس.
كان المبنى الذي ألقى نتنياهو خطابه فيه، محاطا بالآلاف من المتظاهرين -ومنهم يهود- الذين رفعوا شعارات تقول لنتنياهو، أنت قاتل للأطفال والنساء، أنت مجرم حرب، أنت ترتكب إبادة جماعية. هو رأى ذلك بعينه.
ورأى في قاعة المجلس أحد العضوات ترفع لافتة كتب على وجهها الأول نتنياهو مجرم حرب، وعلى الوجه الآخر “مذنب بارتكاب جرائم إبادة جماعية”. ووقف متبلدا وهو يرى زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر -الذي كان قد دعا نتنياهو للتنحي- يتجنب مصافحته. وتابع تصريحات السيناتور بيرني ساندرز وهو يهودي أيضا مثل شومر التي قال فيها “إنها المرة الأولى التي يُعطَى فيها مجرم حرب شرف إلقاء خطاب أمام الكونغرس”.
كما تابع نتنياهو تصريحات رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي التي قالت فيها: أن خطاب نتنياهو أسوأ عرض قدمته شخصية أجنبية حظيت بشرف مخاطبة الكونغرس.
كان التصفيق بعصبيه لإخفاء كل هذا التغيير. حتى هو نفسه ألقى جمله فصفقوا له قبل أن يكملها، فاستدار وطلب منهم وقف التصفيق، قال “لا لا تصفقوا استمعوا”.
كانت حاله هستيرية، إذ صفق الحاضرون لنتنياهو 79 مرة خلال الـ53 دقيقة التي استغرقها إلقاء الخطاب، فكان معدل التصفيق مرة كل نحو 40 ثانية!
كان تصفيقا لوداع نتنياهو ودوره.
وهذا هو مضمون خطاب نتنياهو نفسه، رغم استخدامه كل الألفاظ التي ترفض ذلك، ورغم إطلاقه سيلا من الأكاذيب.
أظهر الخطاب نهاية تبجح نتنياهو. لقد أسقط من خطابه كل ما كان يقوله حول استقلال قرار الكيان وأنه سيذهب لفعل ما يحقق مصلحة كيانه سواء وافقت الإدارة الأمريكية أم لم توافق.
هو تحدث ذليلا ليؤكد أن الكيان مجرد جهاز استخبارات متقدم للولايات المتحدة. وأن الجيش الصهيوني يكرس دوره للدفاع في الخطوط الأولى عن أمريكا وقواتها، حتى لا تصل الهجمات لأمريكا وحتى لا تتضرر مصالحها.
كان ذليلا بالفعل. كان الخطاب إعلانا بالضعف.
اعترف أنه لن يستطيع بقدرات الكيان الصهيوني حسم الحرب، وظهر بمظهر الخادم الصغير.. وكاد أن يقول إن جنود كيانه مجرد مرتزقه للدفاع عن أمريكا. وهو من كان يقول سابقا: نحن لسنا جمهورية موز.
لقد ظهر بمظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تماما. قال اعطوني السلاح بسرعة لكي أنجز المهمة أسرع.
وكان دفاعيا حين قال إن “إسرائيل” لا تجوّع الفلسطينيين، إذ كان يرد على تقارير مؤسسات الأمم المتحدة. وحين قال إن “إسرائيل” لا تقتل المدنيين، ردا على المحكمة الجنائية التي تتهمه بارتكاب جرائم حرب.
وقد أبدى ضعف كيانه في عدة مواضع، منها تحاشيه الحديث أو التهديد بحرب في الشمال ومنها حديثه الممزوج بالفرح عن دفاع أمريكا واخرين، عن كيانه في مواجهة هجمات جماعة الحوثيين.
خلاصة خطاب نتنياهو، أنه مثل صرخة استغاثه لأمريكا للإمداد بالسلاح والحماية من الملاحقات الدولية، وتأكيد على خضوعه الكامل للتوجيهات الأمريكية وللدور الوظيفي الذي تحدد لكيانه منذ نشأته.
أما هؤلاء المصفقون فهم يعلمون قبل غيرهم أنهم صفقوا لقاتل ومجرم حرب مطلوب للجنائية الدولية وأنهم صفقوا ليدعموا من يرتكب جرائم إبادة جماعية. هم أرسلوا رسالة للعالم كله، بكذب كل شعارات الحرية والعدالة وحقوق الانسان التي تتشدق بها أمريكا.