ارتفاع معدلات جرائم القتل يفضح مزاعم حكومة السوداني في استتباب الأمن في العراق
مختصون يؤكدون تحول البيئة الاجتماعية العراقية إلى "بيئة ملائمة لتفشي الجريمة الجنائية والمنظمة" جراء عوامل مختلفة من أبرزها انتشار المخدرات وتفشي البطالة والسلاح المنفلت وضعف الوازع الديني.
الأنبار – بغداد
يكشف التزايد المهول بمعدلات الجريمة في العراق فضلًا عن التحوّلات الخطيرة في نوعية الجريمة وطبيعتها حجم الانهيار الأمني والاقتصادي والاجتماعي في ظل الظروف السياسية غير المستقرة بعد الاحتلال بعد أن أفضت إلى تحولات أخلاقية ونفسية خطيرة على مستوى الفرد والمجتمع.
ويحمل مراقبون للشأن العراقي مسؤولية ارتفاع معدلات الجريمة في العراق والتطورات الخطيرة في نوعها وطبيعتها للنظام القائم في البلاد على المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية.
ويرى هؤلاء أن النظام الذي تقوده أحزاب وميليشيات متهمة بارتكاب جرائم القتل على الهوية، لم يتسبب فقط في تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بل ساهم كذلك في وضع الأسس المتينة لبيئة مناسبة لانتشار الجريمة وتناميها.
وتتداول وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قصصًا مصورة بشكل مروع عن الجرائم في العراق لاسيما المرتبطة بتعاطي المواد المخدرة والتي كان آخرها الجريمة المروعة التي هزت الشارع العراقي بعدما أقدم رجل على قتل 8 أشخاص 5 منهم من أفراد عائلته بإطلاق النار عليهم في منطقة العنكور شرقي محافظة الأنبار.
وأكدت مصادر محلية من الرمادي مركز محافظة الأنبار أن شخصًا أقدم على إطلاق النار على أفراد عائلته، وعلى عدد من الأشخاص مستخدما سلاحا من نوع “كلاشينكوف”.
وبينت المصادر أن “الضحايا هم زوجته (ابنة عمه) ووالداها وشقيقتاها وصاحب أسواق قرب المنزل و2 من المارة”.
وبنفس الطريقة شهدت محافظات مختلفة حوادث مماثلة لاسيما ما شهدته محافظة البصرة جنوبي العراق حينما قتل 13 شخصًا من عائلة واحدة في قضاء شط العرب في شهر أيار الماضي وسط غموض لف الحادثة التي هزّت المجتمع البصري وتشكيك بالرواية الرسمية التي اتهمت رب الأسرة بتصفية أفراد أسرته قبل إنهاء حياته.

ولم تكن هذه الاحداث ومدى تسارعها وتزايدها ملحوظًا فقط، بل أن إحصائها يكشف بالفعل عن ارتفاع حالات القتل الجنائية في العراق خلال الأشهر الماضية، مقارنة بآخر شهرين من عام 2023.
حيث بلغ عدد حوادث القتل في شهر كانون الثاني 2024، 46 حالة قتل، أما في شباط أي الشهر الذي بعده، بلغت حوادث القتل 44 حالة، وفقًا لبيانات تم تجميعها من مواقع عالمية مختصة.
وتأتي هذه الأرقام مقارنة بـ34 حالة قتل فقط في تشرين الثاني 2023، و28 حالة قتل فقط في كانون الأول 2023. ما يعني أن عدد حوادث القتل في أول شهرين من العام الحالي بلغ مجموعها 90 حالة، مقارنة بـ62 حالة فقط مع الشهرين السابقين لهما، أي آخر شهرين في 2023، وهذا يعني أن نسبة حوادث القتل ارتفعت بنحو 45 بالمائة.
ووفقًا لمصادر أمنية فإن “عدد الجرائم الجنائية في العراق خلال شهر حزيران الماضي ارتفع لأعلى مستوى منذ 4 اشهر حيث جاء بالمرتبة الثالثة بعدد الجرائم بعد كل من شهر كانون الثاني وشباط”.
وبينت المصادر أن “عدد ضحايا الجرائم الجنائية بلغ 40 قتيلا بعد ان كانت تتراوح بين 23 و29 خلال أشهر أيار ونيسان وآذار”.
وتعني هذه الأرقام بحسب المصادر الأمنية أن معدل القتل في العراق في شهر حزيران ارتفع 50 بالمائة مقارنة بمعدل الاشهر الثلاثة التي سبقت شهر حزيران.
في المقابل تحاول وزارة الداخلية في حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني رسم صورة وردية للواقع الأمني المتردي في بغداد وعموم المحافظات عبر نشرها بيانات تتحدث فيها عن تراجع نسب الجرائم في المجتمع.
ومن بين هذه الإحصائيات المثيرة التي أصدرتها الداخلية، هو انخفاض نسبة الجريمة بالعراق بنسبة 20 بالمائة، وانخفاض الحوادث الجنائية إلى 40 بالمائة خلال عام 2023 فضلًا عن الادعاء بقطع شوط كبير في مجال مكافحة المتاجرة بالمخدرات.
ومن أهم المؤشرات والملاحظات ونقاط الضعف في هذه الإحصائيات هو أنها جاءت كإحصائيات “مجردة”، أي انها ادعاءات لم تقترن بالدليل، فوفقًا لأدبيات علم الإحصاء والبيانات، يتوجب على وزارة الداخلية إعلان الأرقام المتعلقة بعام 2022 وعام 2023، لتتم المقارنة بين العامين والتحقق من حقيقة نسبة الانخفاض المذكورة.
ويؤكد مختص في علم الإحصاء أن “لغة الإحصاء، لاتعد لغة أرقام فقط، بل أن استخدام حرف واحد في غير موضعه، قد يؤثر على النتيجة الرقمية بالكامل”.
ويضرب المختص الذي فضل عدم الكشف عن هويته مثالًا على ذلك بعد أن “استخدمت وزارة الداخلية تعبيرًا في إحدى الاحصائيات بالقول إن نسبة الجريمة انخفضت 20 بالمائة، لكن لم توضح ما المقصود بالجريمة؟”.
وأضاف أنه “من المتعارف عليه أن الجريمة هي السرقة والقتل أو غيرها من الحوادث التي تمثل جرائم، أو أن يكون التعبير عن الجريمة هو الجريمة المنظمة، التي تضم القتل وتهريب البشر والمخدرات وغيرها من الجرائم العابرة للحدود، لكن الداخلية اكتفت بالقول بانخفاض الجريمة بنسبة 20 بالمائة دون إيضاح تعريف الجريمة وأعدادها في 2022 و2023 للتحقق من حقيقة انخفاضها”.
ويشير المختص في علم الإحصاء إلى أن “التعبير اللغوي المحير الآخر، هو قول الداخلية بانخفاض الحوادث الجنائية إلى 40 بالمائة حيث أن القول إن الحوادث انخفضت بنسبة 40 بالمائة يختلف تمامًا عن القول بأنها انخفضت إلى 40 بالمائة”.
ويتابع “فالانخفاض بنسبة 40 بالمائة معناه أنها فقدت 40 بالمائة من أرقامها، أما الانخفاض إلى 40 بالمائة، فهذا يعني أنها فقدت 60 بالمائة من أرقامها، ومن غير المعروف ماذا تقصد الداخلية، هل أن الحوادث الجنائية انخفضت 40% أم 60%؟”.
يأتي هذا في وقت احتل العراق المرتبة الثامنة عربيًا والثمانين عالميًا من أصل 146 دولة بمؤشر الجريمة للعام الحالي 2024، وفقًا لموقع “نامبيو” الذي يعنى بتقديم بيانات حول معدلات الجريمة، وجودة الرعاية الصحية.
وجاء العراق في المرتبة 80 عالميًا بمؤشر 44.7 بالمائة وبمؤشر سلامة 55.3 بالمائة، وحل في المرتبة الثامنة عربيًا بمؤشر الجريمة للعام الحالي، بعد كل من سوريا واليمن وليبيا والجزائر ومصر والمغرب ولبنان.

ويترافق تصاعد أرقام الجريمة في العراق والتغيرات في طبيعتها نحو مزيد من القسوة والفظاعة مع ظاهرة لصيقة كثيرًا ما تكون سببًا مباشرا في ارتكاب الجرائم، وتتمثل في انتشار المخدّرات بأنواعها على نطاق واسع وتفشي تعاطيها لدى فئات اجتماعية واسعة وخصوصًا فئة الشباب.
ويرجع اللواء الركن المتقاعد عماد علو، أسباب ملائمة البيئة الاجتماعية العراقية لتفشي وانتشار الجريمة الجنائية والجريمة المنظمة إلى “تحول العراق خاصة في مسائل المخدرات وتهريب السلاح من البلدان التي تستقطب هذه المواد بعد أن كان ممرًا لعبورها فقط، ولهذا تنتشر العصابات والمافيات العابرة للحدود في العراق”.
ويوضح علو، أن “أخطر الجرائم هي الجريمة المنظمة على اعتبار أنها تستهدف شرائح المجتمع خاصة مافيات المخدرات التي باتت تستهدف الشباب وحتى الأطفال والنساء في الجامعات ومراكز العمل نتيجة البطالة ومحاولات الكسب السريع من قبل هؤلاء المجرمين وتصدير هذه المواد وتهريبها إلى داخل العراق”.
وتابع “كما أن هناك جريمة تهريب الأسلحة التي تساعد على استمرار السلاح خارج سيطرة الدولة، وبذلك يزداد العنف وتكون هناك مساحات لارتكاب جرائم جنائية من سرقة وقتل وخطف وابتزاز وغيرها من الجرائم”.
ويتفق الخبير القانوني علي التميمي مع ما ذهب إليه اللواء الركن المتقاعد عماد علو بالقول إن تعاطي المخدرات وتفشي البطالة وانتشار السلاح المنفلت وضعف الوازع الديني من أبرز مسببات ارتفاع معدلات الجريمة.
وأضاف التميمي أن “العراق يشهد بشكل شبه يومي حالات قتل وخطف واغتصاب بالإضافة إلى الانتحار وأساليب وحشية في ارتكاب هذه الجرائم، الأمر الذي يشير إلى وجود نزعة عالية لارتكاب الجرائم لدى الجناة”.
وبين أن “أهداف العقوبة الجنائية هي الردع حيث يشدد قانون العقوبات العراقي في مثل هذه الجرائم، فمثلا جرائم القتل بالحرق عقوبتها الإعدام وفق المادة أ/1/406، وحتى اغتصاب الصغيرات عقوبتها الإعدام وفق المادة 393/2 من قانون العقوبات العراقي”.
وأشار إلى أن “الجانب النفسي يطغى في هذه الجرائم وهذا يحتاج إلى دراسات لهذه الظواهر من المختصين ومن ثم نشر الوعي عن طريق الإعلام ورجال الدين والمدارس”.
ويعزو باحثون اجتماعيون ونفسيون ارتفاع معدلات الجريمة كذلك إلى إرساء الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال لسياسة تقوم على الانتهازية والتنافس غير الشريف على تحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب المادية بطرق غير مشروعة الأمر الذي كرس الأنانية والجشع كخلق شائع على نطاق واسع.
وتوضح الباحثة النفسية إيناس هادي سعدون، أن “الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية زادت من حالة عدم الاستقرار، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي، فإن البطالة والفقر أدت إلى زيادة الجريمة نتيجة للسعي وراء البقاء وتأمين لقمة العيش”.
وترى إيناس سعدون أن “الأجيال التي نشأت ما بعد العام 2003 وترعرعت في ظل العنف والاضطرابات المستمرة تبنت سلوكيات عنيفة وعُدت وسيلة طبيعية لحل النزاعات، الأمر الذي زاد من احتمالية الانخراط في أنشطة إجرامية”.
وأضافت أن “انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية أضعف ثقة المواطنين إلى حد كبير في النظام القانوني فأدى إلى انتشار الفوضى والجريمة كوسيلة للحصول على الحقوق والموارد بطرق غير شرعية”.
وبينت أن “التفاوت الكبير في الدخول الاقتصادية زاد من الفوارق الاجتماعية ومن الشعور بالإحباط واليأس، مما دفع البعض للجوء إلى الجريمة”.
وخلصت الباحثة بالقول إن “التفسير النفسي والاجتماعي لارتفاع نسبة الجرائم في العراق يمكن فهمه من خلال تحليل مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية التي أسهمت في تفاقم الوضع الأمني والاجتماعي في البلاد منها، تعرض العراقيين للصدمات النفسية نتيجة الحروب والاضطرابات الأمنية المستمرة، مما أدى إلى زيادة مستويات التوتر والقلق والاكتئاب، مما ساهمت في زيادة سلوكيات العنف والجريمة”.