أخبار الرافدين
محمد الجميلي

من يوقف مقصلة الإعدام في العراق؟

فُجع الكثير من عائلات العراقيين في مدن الموصل والرمادي وسامراء وتكريت والفلوجة وتلعفر وديالى، يوم الاثنين الماضي الثاني والعشرين من تموز الجاري بإعدام أبنائها في سجن الحوت سيء الصيت بالناصرية في محافظة ذي قار جنوب العراق.
وهذه الوجبة الجديدة من الإعدامات التي صادق على تنفيذها الرئيس الذي لا يحفظ العراقيون اسمه، جاءت في ظل الحديث عن إقرار قانون العفو العام والذي يطالب به العراقيون المنكوبون منذ سنوات طويلة ولا من مجيب سوى التجاذبات بين الأحزاب والمتاجرة بأرواح الأبرياء من قبل الكتل السياسية التي لا قيمة للإنسان ولا حياته وكرامته أمام مصالحها الخاصة التي تخضع للشد والجذب بين الشركاء المتشاكسين.
والأكثر إيلامًا في وجبة الإعدامات الأخيرة أن غالبهم من الذين تم اعتقالهم من قبل الاحتلال الأمريكي بجريرة المقاومة، ثم سلمتهم قوات الاحتلال لحكومة المالكي عام 2011 لتحكم عليهم بالإعدام وتنفذه حكومة السوداني الذي يسميه بعض ساسة السنة (ابن حمولة)، ثم تسليمهم لدائرة الطب العدلي الذي بدوره فجع ذويهم باتصال هاتفي: (تعالوا استلموا ابنكم)، وهكذا نكبت عائلات أخرى كانت تأمل أن تحظى بلقاء أبنائها أحياءا، ولكن شهوة الانتقام من المليشيات الحاكمة قضت على آمالهم بحد المقصلة الظالمة.
منذ أن وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها العالمي لعام 2013 النظام القضائي في العراق بالمحطم، لم يحدث أي تغيير في ملف حقوق الإنسان الكارثي في العراق، ولم نشهد أي تراجع في وتيرة الإعدامات التي تصدر أحكامها في ظل إنعدام أدنى شروط العدالة، وفي ظل أحكام بات معلوما أنها استهداف طائفي سخرت المنظومة القضائية لتنفيذه وجندت إمكانات الدولة ومليشياتها لتحقيقه.
وفي آخر بيان لمنظمة العدل الدولية في الخامس والعشرين من نيسان الماضي بعد إعدام ثلاثة عشر معتقلا في سجن الحوت في الناصرية بمحافظة ذي قار قالت المنظمة: (إن الإعدامات الأخيرة في العراق مروّعة وتُسبّب الإحباط. فعلى مدى سنوات، ابتُلي نظام القضاء في العراق بإرث من الانتهاكات والتجاوزات فيما يخص حقوق الإنسان، ما أدى إلى الحكم بالإعدام على الآلاف من الأشخاص عقب محاكمات بالغة الجور).
وقال البيان: (وقد ترقى الإعدامات التي تُنفَّذ عقب محاكمات لا تستوفي المعايير الدولية لحقوق الإنسان إلى حد الحرمان التعسفي من الحياة. وعلى الحكومة العراقية أن تفرض على الفور وقفًا رسميًا لعمليات الإعدام وأن تعمل على إلغاء عقوبة الإعدام برمتها).
الإعدامات في العراق باتت تنفذ سرا وبدون سابق إنذار، ولا إعلام لعائلات المعدومين ولا محاميهم، لتجنب ردود الأفعال من بعض المنظمات الحقوقية وهيئات حقوق الإنسان، مما يؤكد أن النظام الحاكم في العراق يستخف بكل التقارير التي تنتقد العدالة الغائبة، وبيانات المنظمات الحقوقية التي تطالبه بإعادة محاكمة المتهمين وفق شروط العدالة بعد أن تأكد العالم كله أن اعترافات المتهمين جرت تحت التعذيب والتهديد بالانتقام من عائلاتهم وزوجاتهم، وفي غالب الأحيان يجري توقيعهم على مستندات وهم مغمضو العينين لا يعرفون مضمونها ولا ما كتب فيها.
في ظل انعدام المصداقية والشفافية في عمل وزارة العدل في النظام القمعي الحاكم في العراق، لا يعلم على وجه التحديد عدد المحكومين بالإعدام في (سجن الحوت) بالناصرية سيئ الصيت، ولكن تقديرات منظمات حقوقية تشير إلى أن العدد يفوق الثمانية آلاف محكوم، ولا تسأل عن أعداد المخبرين السريين الذين فبركوا التهم لهؤلاء الأبرياء، ولا عن تحقق شروط العدالة المعتبرة عند التحقيق معهم، ولا التعامل الإنساني الذي تفرضه القوانين والشرائع في التعامل حتى مع الأعداء، فكيف بالذين لا جريرة لهم سوى شهوة الانتقام من المتحكم بالسلطة في البلد المنكوب.
إن القصص المروعة عن التعامل مع المعتقلين وطريقة انتزاع الاعترافات منهم عند التحقيق معهم، التي ينقلها بعض المحامين أو ذوو المحكومين ممن تسنى لهم مواجهة أبنائهم في السجون، مما يشيب له الولدان، وتؤكد أن المنظومة القضائية بأجمعها أصبحت رهينة لدى المتنفذين في السلطة ومليشياتها، وأن القضاء شريك أساس في جريمة الانتهاكات الفضيعة لحقوق الإنسان، وفي سوق الآلاف من الأبرياء لمقصلة الإعدام لتحقيق غايات لا تمت للإنسانية -فضلا عن المواطنة- بصلة، بل وفي قتل العديد منهم أثناء التحقيق بسبب التعذيب الوحشي لإجبارهم على الاعتراف بما يطلب منهم، ثم إن التصفيات للأبرياء وقتل حياتهم عمدا لا يقتصر على إعدامهم في مقاصل الإعدام، بل إن أعداد من يتم تصفيتهم في السجون سواء بالتعذيب النفسي والجسدي أو بانعدام الرعاية الصحية قد توازي أعداد من يتم إعدامهم سرا أو علنا.
لم تفلح مناشدات العائلات المنكوبة من ذوي المحكومين بالإعدام لا في إعادة محاكماتهم ولا في إصدار قانون العفو الذي يجري الترويج له من قبل سياسيي السنة في كل موسم انتخابات، بعد أن فرغ القانون من محتواه في مناقشات البرلمان على مدى السنوات الماضية، وبعد أن تأكد الجميع أن هذا النظام القمعي الطائفي العنصري لا يقيم وزنا لمواثيق دولية ولا حقوق إنسان ولا لعرف ولا دين، حتى قال أحدهم في مجلس النواب: (تعديل قانون الأحوال الشخصية مقابل قانون العفو)، وقد صار في حكم اليقين لجميع الناس أن لا جهة أو مؤسسة في هذا البلد بريئة من دماء هؤلاء الأبرياء، بل الكل مشترك في تقويض أركان العدالة، وعلى رأس هذه المؤسسات الفاسدة تتربع مؤسسة القضاء الذي وصفه نوري المالكي بالقضاء الشامخ، وهو شامخ عندما يحقق لهم أجنداتهم الطائفية والعنصرية.
الكارثة في العراق مركبة، فليس القضاء وحده المحطم، فقد تم تحطيم كل مقومات الدولة على يد العصابات المتحكمة فيه، ولكن المصيبة الأكبر هي ما حل بالإنسان العراقي وحريته ومقومات حياته وحقوقه التي بات الحديث عنها والمطالبة بها يعرض صاحبها للمساءلة أو الاختطاف أو التصفية، ولا سبيل للخلاص من هذا البلاء إلا بإرادة شعبية من جميع الطوائف والفئات تستعيد بها حقوقها وحياتها وكرامتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى