تغيير سياسي عبر الاغتيالات
صعد الكيان الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة، من عمليات الاغتيال السياسي الأيام الأخيرة. بدى ما يجري كموجه متحركة، بدأت بمقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث الطائرة الشهير، وذهبت نحو لبنان، فجرى اغتيال رئيس أركان ميليشيا نصر الله، فؤاد شكر في بيروت. واختتمت الموجه –حتى الآن- باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس في قلب طهران.
وفي تفسير تلك الموجة، انشغل متابعون بالبحث في الجوانب الفنية، بالحديث عن اختراقات أمنية وعن الطرق التي اعتمدت في عمليات الاغتيال. ووصل البعض حد الاستنتاج السياسي من تلك الجوانب الفنية، كمثل من قال إن ملابسات حادث اغتيال هنية يكشف عن تواطؤ إيراني. وأن ملابسات حادث اغتيال فؤاد شكر تظهر مدى الانكشاف السياسي لميلشيا نصر الله.
وفي التعامل مع التوقيت والأهداف، جرى التركيز على الأسباب المباشرة التي تتعلق بنتنياهو. قيل إن نتنياهو اختار هذا التوقيت لخلط الأوراق للخروج من مأزق فشله في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها سببا لغزو واحتلال غزة، وأنه استهدف التخلص من الضغوط التي تطالبه بعقد صفقه لتبادل الأسرى ووقف الحرب، بما يهدد بقاؤه في الحكم. وهناك من أشار إلى محاولة صهيونية لاستعادة حالة الردع التي فقدها الكيان منذ ضربة السابع من تشرين الأول “أكتوبر”. وقيل أيضا أن نتنياهو يسعى لتوريط الولايات المتحدة في حرب إقليمية كبرى في الإقليم.
وواقع الحال أن الكيان الصهيوني، اعتمد سلاح الاغتيالات ضمن وسائل إدارة الحرب والصراع، منذ تشكيل العصابات الأولى على أرض فلسطين، وقد بلغت جرائم الاغتيال التي ارتكبها نحو 2800 عملية.
غير أن مثل تلك الاغتيالات لا يمكن لها أن تتم في هذه المرحلة، إلا بقرار ومساعدة أمريكية. وفي ذلك قد يكون لنتنياهو أهدافه، لكن الأهداف الكبرى تعود لصاحب القرار والخطط الإستراتيجية وهو الولايات المتحدة.
لا يمكن لنتنياهو أن يتخذ مثل تلك القرارات، لأنه لا يستطيع تحمل نتائجها وحده. وهو أوضح بجلاء في خطابه الأخير أمام الكونغرس، أن استخبارات وجيش الكيان هما في خدمة الإستراتيجيات الأمريكية. وأن كيانه لا يستطيع خوض الحرب إلا بالمساعدة العسكرية الأمريكية.
والحاصل أن الولايات المتحدة تعمل منذ فترة لإعادة ترتيب المشهد والأوضاع السياسية في الإقليم، وأنها من أوعزت للكيان الصهيوني للقيام بتنفيذ الاغتيالات الأخيرة والمساعدة في تنفيذها.
وكما استهدفت الولايات المتحدة قطع رأس قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس خلال حكم ترامب لترتيب أوضاع الميليشيات الإيرانية في العراق والإقليم، وإعادتها إلى بيت الطاعة الأمريكي لتكون في خدمة المخطط الأمريكي كليا، فقد اغتالت إبراهيم رئيسي وعبد اللهيان لفتح الطريق لوصول إصلاحي للسلطة في إيران، ليتماشى دوره بشكل أفضل مع المخطط الأمريكي الذى يهدف إلى منع اشتعال المنطقة الآن ولتقليل الضغوط التي شكلها رئيسي على محاولتها ومخططها لتطوير عملية التطبيع في الإقليم، ولإرباك المشهد الإيراني المندفع نحو روسيا والصين.
وفي عملية اغتيال فؤاد شكر في لبنان، فالهدف هو إضعاف قدرة نصر الله على التعامل مع الضغوط العسكرية الصهيونية بإحداث اختلال في دائرته الأشد قربا وموثوقية، والمغتال كان ضمن الفريق الأول لتشكيل الجناح العسكري للميليشيا مع عماد مغنية وآخرين، ولإرسال رسالة لنصر الله نفسه بأننا قريبون منك وأن بإمكاننا إنهاء ظاهرتك. وهي استهدفت إحداث تغيير في العلاقات بين المجموعات التي تتشكل منها ميليشيا نصر الله، وإرباك مشهد العلاقات بين تلك الميليشيا وقرينتها في حركة أمل التابعة لنبيه بري.
أما في عملية اغتيال إسماعيل هنية، فقد تعددت الأسباب والأهداف. فهناك أن هنية صاحب رصيد جماهيري وافر على الارض الفلسطينية وهو المرشح لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية وحشد وتعبئة الشعب الفلسطيني في حال انهيار السلطة الفلسطينية، وقد شغل من قبل موقع رئيس الوزراء في حكومة السلطة بعد انتخابات عام 2006. وهناك أن هنية بات يحظى باعتراف دولي متصاعد استنادا إلى ما حققته المقاومة على الأرض وهو تحرك في عواصم عربية وعالمية عدة خلال فترة طوفان الأقصى. وهناك أن هنية أثبت خلال المفاوضات حول صفقة تبادل الأسرى، قدرة على التعامل مع المتغيرات السياسية الوقتية مع تمسكه بالثوابت، بما أفشل محاولات عده لعزل حماس وتشويهها.
والأهم أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني نظرتا لتولى هنية قيادة حماس باعتباره تغييرا خطرا على الصعيد الإستراتيجي. لقد صعد هنية لقيادة حماس قادما من الداخل، حيث كان قد ادار عدة حروب مع الكيان الصهيوني، فضلا عن تجذر علاقته بالواقع الفلسطيني في الداخل سواء في غزة أو الضفة. وقد مثل خروج هنية من غزة نقلة خطرة في قيادة حماس في الخارج باتجاه الداخل.
والمعنى هنا ليس أن من سيأتي لقيادة حماس سيكون أقل كفاءه أو أنه سيفرط في الخط العام للمقاومة. القصد أن هنية تمتع برصيد شعبي في داخل النسيج الفلسطيني وأن كان صاحب خبرة في إدارة العلاقات المباشرة والتفاصيل اليومية خلال ادارة الصراع والحرب على الأرض.
لقد جرت الاغتيالات ضمن خطة لإحداث تغيير في المشهد السياسي في الإقليم.
