الحياة تعود إلى أسواق الملابس المستعملة على وقع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة
العراقيون يتجهون إلى اقتناء الملابس المستعملة بعد تراجع قدرتهم الشرائية جراء الظروف الاقتصادية الصعبة وهدر الفساد الحكومي للميزانيات الانفجارية التي لم تسهم بتحسين الواقع المعيشي للمواطنين.
بغداد – الرافدين
تسببت السياسات الاقتصادية الخاطئة بعد الاحتلال فضلًا عن الفساد وهدر المال العام باتساع رقعة الفقر والبطالة بين العراقيين قبل أن تتفاقم الأوضاع الاقتصادية بشكل أكبر على وقع انخفاض قيمة الدينار أمام الدولار الأمر الذي دفع العديد منهم إلى التوجه نحو الملابس المستعملة التي يرى زبائنها أنها مناسبة لهم في ظل تراجع القدرة الشرائية.
وسجل العراق انخفاضًا في قيمة الدينار أمام الدولار بعد أن وصل سعر صرفه إلى أكثر من 1500 دينار للدولار الواحد، في السوق الموازي مطلع شهر آب الجاري.
ودفع هذا التراجع في قيمة العملة شريحة واسعة من العراقيين إلى إعادة ترتيب أولوياتهم إذ لم يعد التوجه إلى محال الملابس الجديدة من أولوياتهم كما في السابق بعد أن بات تأمين المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها على رأس الأولويات في وقت سجلت فيه مجمل الأسعار في العراق ارتفاعًا ملحوظًا منذ عام 2007 وحتى 2023 بنسبة تصل إلى 95 بالمائة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بحوالي 84 بالمائة، والإيجارات بنسبة 78 بالمائة.
وكشفت دائرة الإحصاء والأبحاث في البنك المركزي العراقي عن ارتفاع معدل التضخم الشهري، بنسبة 3.0 بالمائة لشهر نيسان الماضي، بينما وصلت في شهر أيار إلى 3.4 بالمائة ما يؤدي وفق خبراء اقتصاد إلى ظهور طبقة فقيرة جديدة تُضاف إلى شريحة من يعيش تحت خط الفقر والتي من المتوقع أن يصل عددها إلى أكثر من 13 مليون مواطن مع نهاية العام 2024.
وتلقى أسواق الملابس المستعملة في عموم العراق رواجًا وتزداد نموًا وتكتسب شرائح مجتمعية أوسع يومًا بعد آخر على وقع الأزمة الاقتصادية في البلاد إذ تتناسب أسعارُ البضائع فيها مع المقاس الضيق لميزانية قاصديها، بعد أن باتت الملابس الجديدةُ بالنسبة إليهِم مقتصرة على مواسم الأعياد والمناسبات فقط كونها خارج متناول اليد ولا تتحمل جيوبهم تكاليفها الباهظة.
وتتميز أسواق الملابس المستعملة، بالأسعار الرخيصة والأنواع المختلفة وبعضها يرجع إلى مناشئ مهمة وذات جودة عالية، ولعلّ أكبر هذه الأسواق موجودة في أحياء السعدون والباب الشرقي والكاظمية ببغداد، ومراكز المحافظات كما في ذي قار والبصرة فضلًا عن مدن كردستان العراق حيث تتوفر أسواق كبيرة لهذه الملابس في السليمانية وأربيل، وتسمّى هذه الملابس محليًا بـ”البالة” أو “اللنكة”.
ويقول محمد أحمد وهو من ذوي الدخل المحدود ممن يترددون على محال الملابس المستعملة في السليمانية إن “وضعه المادي البسيط يجبره على التبضع من محال الملابس المستعملة، وهي تغنيه عن اقتناء الملابس الجديدة ذات الأسعار الباهظة خصوصاً وأن هذه من مناشئ مشهورة.
ويوضح أحمد “لديّ أبناء في المدرسة ودخلي محدود لذلك أنا ملزم بارتياد سوق البالة لتوفير الملابس والأحذية لهم، لكن تذبذب سعر صرف الدولار انعكس علينا لكون شراء البالة يتم بالدولار من قبل تجارها”.

وفي سوق الثياب المستعمل أو كما تعرف بسوق البالة بمدينة أربيل، هنالك عشرات المتاجر المتراصة التي تستقبل آلاف الزبائن يوميًا.
ويعمل هيوا بائعًا في واحدة منها منذ نحو خمسة عشر عامًا، ويؤكد بأن الإقبال على الثياب المستعملة زاد في السنوات الأخيرة بسبب المشاكل الاقتصادية التي يعانيها المواطنون، وضعف القدرة الشرائية لديهم.
ويذكر هيوا (47 عامًا) بأن حاويات الثياب المستعملة المستوردة للعراق “تحوي غالبيتها ثيابًا ذات ماركات عالمية، وبجودة عالية، وبعضها غير مستعمل”، وهو ما يشجع الكثيرين ومن شرائح مختلفة على شرائها.
وفي البصرة، أقصى جنوبي العراق، يقول فراس، أحد بائعي ملابس “البالة”، إن “شهري أيلول وتشرين الأول يمثلان الموسم التسويقي بالنسبة لنا، بسبب حلول العام الدراسي الجديد، حيث تقبل غالبية العائلات على السوق للتبضع”.
وبين أن “جميع البائعين في سوق البالة يجهزون بضاعتهم مع حلول فصل الشتاء، وهذه البضائع تصل من مصادر متعددة من الخليج أو أوروبا وحتى من أمريكا”.
وأضاف أن “العائلات تلجأ إلى البالة لأن أسعارها تكون مناسبة لمدخولها الشهري، فضلًا عن أن هناك علامات تجارية تُعرض في البالة أفضل من الملابس المعروضة في المحال التجارية، وبعضها يأتي جديدًا للغاية، وهناك أشخاص مميزون في انتقاء القطع المستوردة”.
وفي سوق الملابس المستعملة في الناصرية مركز محافظة ذي قار يوضح عباس أبو عمار، أحد مرتادي هذه السوق، إنه “قبل عدة سنوات ومنذ افتتاح محال صغيرة لبيع الملابس المستعملة، كان الناس ينظرون لها بشيء من الترفع والفوقية بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منها ولتكدسها بشكل عشوائي، حتى أن أغلبهم لا يمرون بالمناطق التي تتواجد فيها هذه السلع”.
وتابع “لكن سرعان ما اتسعت رقعة هذه الأسواق بشكل ملحوظ، وبدأت تتشكل ملامح سوق شعبية تحتوي على أي شيء يخص الاستخدام، وليس فقط الملابس، وربما تصادفك أشياء بأبخس الأثمان لكنها ذات فائدة عظيمة ومن مناشئ عالمية”.
ويشير أبو عمار إلى أن “اختلاف رؤية المجتمع بعد سنوات للبالة لوجود مواد من علامات عالمية وخاصة الكهربائية منها، وصار الجميع يأتي بلا تردد ولا استحياء”.
بدورها تؤمن ياسمين وهي طالبة في كلية الإعلام بجامعة بغداد بشعار مفاده “اعطِ الملابس المستخدمة فرصة جديدة”.
وتقول بأنها ملهمة للأخريات من خلال ما ترتديه من ملابس، هي في الأصل مستعملة لكن تضيف إليها بعض اللمسات البسيطة، أو تقوم بإعادة خياطتها.
وتضيف وهي تبتسم “أقوم بشيئين معًا، الأول الاستثمار بدلًا من الاستهلاك، والثاني الابتكار الذي أحبه”.
وتضفي ياسمين على أزيائها طابعًا جماليًا جذابًا، دون ان تحمل لمساتها تكاليف باهظة على الثياب المستعملة التي تشتريها من منطقة الباب الشرقي أو الكاظمية أو تلك التي تعثر عليها في شارع فلسطين.
وتتابع “هناك من يسألني من صديقاتي دائما عن المكان الذي اشتري منه هذا “الكوت أو ذاك البلوز”، وأجيب بلا حرج، من البالة وبسعر ألف دينار أو خمسة آلاف دينار، سعادتي تبدأ عندما أرى الانبهار في عيونهن، فأسرد لهن التفاصيل ناقلة إليهن خبرتي في التسوق، الذي أعده آمنًا”.
وتبدي الطالبة الجامعية شعورًا بالمسؤولية وهي تحاول قدر الإمكان المساهمة في تغيير سلوك المستهلك باتجاه استخدام الملابس بنحو مستدام والابتعاد عن تفضيل الأزياء التفاخرية، على حد توصيفها.

وتتضخم في العراق البلد الغارق في الفساد، معادلة اقتصادية شاذة عن بلد تدر عليه ثروته النفطية مليارات الدولارات سنويًا وشعب يعيش أكثر من ربع سكانه تحت خط الفقر الأمر الذي يدفع شريحة كبيرة من السكان للكفاح من أجل لقمة العيش وتأمين متطلبات الحياة بما فيها الملابس التي باتت أسواق بضاعتها المستعملة ملجأ لهم بعد أن خرجت معظم مصانع إنتاج الملابس الوطنية عن الخدمة.
وإزاء ما يستورده العراق سنويًا من الألبسة، لايشكل إنتاج المصانع العراقية، سوى نسبة صغيرة جدًا، إذ يقول المستشار الاقتصادي وعضو مجلس الإدارة في غرفة تجارة بغداد علاء عبد الصاحب النوري، أن العراق يستورد الملابس بقيمة 500 مليون دولار سنويًا.
وأوضح النوري أن معظم الألبسة المستوردة، تأتي من تركيا والصين وإيران وسوريا، كما يستورد العراق كذلك الثياب المستعملة (البالة) من الدول الأوربية ولا سيما المعروفة بدول اتفاقية الشنكن.
وعرف العراقيون سوق “البالة” محليًا في تسعينات القرن الماضي إبان الحصار الاقتصادي المفروض على العراق وانهيار الأوضاع الاقتصادية للمواطنين وكان في حينها يقتصر على الملابس المستعملة حصرًا، ورواده من معظم الطبقات الاجتماعية في البلاد بسبب تدني الدخل المالي.
أما بعد العام 2003 ومع تفشي اللاعدالة الاجتماعية والفساد والفشل الحكومي الذي قضى على الطبقة المتوسطة في العراق بشكل كامل وبات ملايين المتقاعدين وملايين أخرى من الخريجيين الجامعيين العاطلين يعيشون الفقر في أسوأ صوره في بلد يتباهي بموازنته المليارية عادت الحياة مجددًا لهذا السوق بعد أن شهد تنوعًا في بضاعته المعروضة لتشمل الأجهزة الكهربائية والأثاث المنزلي في مؤشر على تنامي معدلات الفقر والعوز بين العراقيين وعدم مقدرتهم على اقتناء حاجياتهم من البضاعة الجديدة.