شركات تداول وهمية تستغل بيئة الفساد في العراق للإيقاع بضحاياها
محتالون يتخذون من تجارة "الفوركس" في العراق مظلة لممارسة نشاطاتهم والإيقاع بالشباب العراقي الباحث عن فرص عمل وربح سريع قبل أن تتبدد أحلامهم وتضيع مدخراتهم في شراك المتربصين خلف شاشات الهاتف المحمول وأجهزة الحاسوب.
بغداد – الرافدين
أوقع محتالون يقفون خلف شركات تداول وهمية العديد من الشباب العراقي العاطل عن العمل بشراكهم بعد إيهامهم بتحقيق أرباح سريعة في حال استثمار الأموال لديهم في ظاهرة تشكلت مؤخرًا متخذة من بيئة الفساد والإفلات من العقاب ساحة لتناميها.
وحضي هؤلاء المحتالون برعاية وتسهيلات من قبل جهات متنفذة لها باع طويل في عمليات الاستغلال وغسيل الأموال ليجد الضحايا من الشباب العاطل عن العمل ومن تخرج حديثًا أنفسهم في مواجهة شبكة معقدة من الفساد وقانون عاجز عن استرداد أموالهم وإنصافهم.
واستقطبت شركات التداول الوهمية في الشبكة العنكبوتية عددًا كبيرًا من الزبائن متخذة من عنوان “الفوركس” الذي يمثل ببساطة سوق العملات الأجنبية أو البورصة العالمية لصرف العملات الأجنبية، والممتد في جميع أنحاء العالم واجهة لنصب الفخاخ لضحاياها.
ويرمز مصطلح “الفوركس” من مزيج من أول حرفين من كلمات المصطلح الاقتصادي المقتبس من اللغة الإنجليزية “Foreign Exchange” أي سعر صرف العملات الأجنبية.
ويشير المتداول أحمد العزاوي، إلى أن هناك شركات، يسميها “أوفلاين”، غير مربوطة بالسوق العالمية مباشرة ولا بالبنوك والسيولة العالمية ويعدها “وهمية تقوم بسرقة أموال المتداولين وتهرب في أي لحظة ويستحيل الحصول على أي تعويض منها”.
وأوضح العزاوي (25 عامًا) من البصرة أن “الاحتيال يحصل عندما يقوم المتداول بفتح صفقة عبر منصة الفوركس ويقوم الطرف المحتال بالتلاعب بالبيانات ولأن الشركة غير مرتبطة مباشرة بالسيولة العالمية فإن المتداول يخسر رأس ماله وأرباحه”.
وبين أن “المحتال قد يطلب من المتداول دفع ربح تعجيزي ليبقى متمسكًا برأس مال المتداول ويستغله للعمل في مجالات أخرى مع ضمان خسارته، وقد يقوم بإدخال أموال أخرى من مكان آخر لزيادة أموال المتداول بهدف خداعه وتحفيزه على إيداع أموال أكثر”.
ونوه إلى أن “عملية النصب والاحتيال تختلف عن الخسائر المالية التي تحصل بسبب خطأ المتداول نفسه بسبب قلة خبرته، لأن الشركات الرصينة الحقيقية تعمل من خلال وسيط عالمي ويمكن في أي وقت سحب الأرباح بدون قيود”.
ودخل العزاوي مجال التداول عن طريق صديق التقى به عام 2019 وحدثه عن شركة استثمار أموال هي Unique Finance، وكان أقل مبلغ للتداول فيها آنذاك هو ألف دولار بمقابل أرباح يومية تتراوح من 2 و5 دولار وبمعدل شهري 50 إلى 70 دولار شهريًا.
وقال لقد “سجلت بألف دولار، وبقيت أتعامل معها بين سنتي 2019 و2020، وكانت تتواصل معي وأستلم منها الأرباح لكن خلال فترة كورونا اختفت الشركة وأغلقت موقعها عبر الإنترنت وبعد البحث تبيّن أنها وهمية تأخذ من مجموعة وتعطي لأخرى”.
وتعرّض العزاوي مع آخرين إلى خسارة مالية معتقدًا أن عمليات الاحتيال التي استغلت اسم الفوركس وجهل الناس به، أثّرت على تجارة الفوركس الحقيقية.
وبين أن “كل الوسطاء المرخصين من قبل الهيئات المالية المختلفة خاضعين لقوانين دولية، وينبغي التمييز بينهم وبين المحتالين”.
وذكر الباحث في الشؤون الاقتصادية العراقية والدولية، إيفان شاكر الدوبرداني، أن الفوركس (FX) أكبر سوق في العالم من حيث التداول.
ولفت إلى وجود نوعين من المعاملات التي تجري فيه، “المعاملات الفورية والعقود الآجلة”.
ويقدر أعداد المتداولين عبره في العراق بنحو مليون متداول “غالبيتهم من فئة الشباب من عمر 20 إلى 30 عامًا من الجنسين”.
ويصف الباحث في الشؤون الاقتصادية العراقية والدولية الفوركس بالتجارة “الخطرة حول العالم” لأنها تتطلب كما يقول “الكثير من المقومات لدخولها وممارستها” ومن المقومات التي يتحدث عنها “الإلمام بالتحليل الفني والأساسي الاقتصادي، وإدارة المخاطر”.
ويشير إلى أن هذا لن يتحقق إلا بعد مرور فترة زمنية طويلة من الممارسة.

وعلى الرغم من أن التداول عبر المنصات الرقمية أحد الوسائل الربحية التي ظهرت حديثًا، ويلجأ إليها الشباب في مختلف بلدان العالم، إذ تنظم هذه العملية وفق قانون وشروط تحمي العميل وأمواله، لكن الحال في العراق يبدو مختلفا حتى اللحظة جراء تقاعس السلطات وتسويفها لوضع ضوابط تنظم عمل هذه الشركات على الرغم من وجود مواد قانونية يمكن البناء عليها في ملاحقة نشاطات هذه الشركات.
وفي هذا السياق يقر رئيس هيئة الأوراق المالية العراقية، فيصل الهيمص، بأن الهيئة بوصفها الجهة المعنية لم تقم بمنح ترخيص لأي من هذه الشركات، وأن لجنة شكلت قبل أشهر مؤلفة من ممثلين عن البنك المركزي وجهاز الأمن الوطني ووزارة الداخلية والاستخبارات فضلًا عن الأوراق المالية، وذلك بناءًا على طلب من رئاسة الوزراء للنظر في عمل هذه الشركات.
وقال الهيمص إن عمل اللجنة تركز على “إيجاد آلية تشرعن عمل شركات الفوركس”، منها أن تقدم ضمانات مالية إلى هيئة الأوراق المالية”، بوصفها الجهة المعنية بترخيص تداول العراقيين للأموال داخل العراق وخارجه”.
وعد هذا الأمر بالحل الوحيد لمعالجة مشكلة الشركات الوهمية وعمليات النصب والاحتيال التي يتعرض لها المتداولون.
ولفت إلى أن حالات نصب عديدة وقعت في العراق خلال السنوات المنصرمة منها قيام شركة Unique Finance غير المرخصة بالاستيلاء على ما يقدر بـ120 مليون دولار من آلاف المتداولين من بينهم أحمد العزاوي من البصرة قبل أن يهرب صاحبها إلى جهة مجهولة.
في الأثناء، يؤكد الحقوقي، علي عبد الأمير، عدم وجود أي تشريع قانوني ينظم عمل شركات التداول في سوق الفوركس داخل العراق وبذلك لا يمكن للشركات “غير الوهمية” أن تودع ضمانات مالية لهيئة الأوراق المالية لممارسة هكذا أعمال، لضمان حماية حقوق المواطن المتداول.
وشدد على ضرورة إصدار تشريعات قانونية تنظم تجارة الفوركس المتزايدة في العراق سيما وأنها يمكن أن تستخدم في تهريب العملة إلى خارج البلاد أو تغذي الإرهاب أو القيام بأي أعمال مخالفة للقانون بما في ذلك غسيل الأموال.
ويؤكد الباحث في الشأن الاقتصادي مصطفى حنتوش، على أن هناك أعمالًا مختلفة لشركات الاستثمار، منها ما تدعي أنها تستحصل الأموال للاستثمار في بورصات عالمية، وهذا النوع رائج بالفترة الأخيرة ويسحب مبالغ ضخمة جدًا، وهو غير مشرعن ولا مسجل في هيئة الأوراق المالية.
وقال إن “هناك أيضًا شركات داخلية، تأخذ الأموال وتوظفها في مشاريع وتقوم بتوزيع أرباح، وهذه الشركات إذا كانت مسجّلة لدى مسجل الشركات فهو نشاط شرعي، وليس ممنوعًا، لأنها تقوم بإدخال شركاء وتتقاسم الأرباح”.
وأضاف “المواطن يلجأ لهذه الشركات لسببين؛ الأول أن العمليات المصرفية ضعيفة في العراق، فنشاط المصارف رديء على مستوى عملية استثمار الودائع، والمدخرات تبقى ساكنة لدى المواطنين فيلجؤون لهذه الشركات لأن نسبة أرباحها أعلى، على الرغم من أن نسبة المخاطرة أكبر”.
وأشار حنتوش إلى أن “السبب الثاني هو أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة في العراق مشوبة بالفشل، إذ تفتقد البلاد لأجواء الاستثمار، ونسبة نجاح هذه المشاريع لا تتجاوز 20 بالمائة، كما أن ثقافة امتلاك الأسهم المباشرة للدخول في السوق المالي ضعيفة”.

ويعد الترويج بواسطة إعلانات تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضها إعلانات ممولة، الطريقة الأكثر شيوعًا التي تستهدف بها شركات الفوركس العملاء المحتملين لها، وبمجرد التسجيل (أونلاين) في واحدة من منصاتها، يبدأ ممثلو الشركات بالتواصل مع الراغبين بالتداول.
ويلاحظ أن للفوركس مساحة إغراء موجهة للنساء تحديدًا، فالإعلانات والشروحات تصور تحقيق الأرباح المالية الهائلة بدون الاضطرار للخروج من المنزل أو بذل جهد وعناء، ويكفي أن تمتلك المتداولة هاتفًا محمولًا فقط لتتمكن من القيام بذلك.
ويقول الباحث الاجتماعي، قيس باسم، إن المرأة في العراق تشارك بنحو محدود في قطاعات العمل المختلفة بسبب الطبيعة القبلية لمعظم المناطق العراقية “لذا فإن الكثير من النساء وإن سمح لهن بإكمال دراستهن الأولية وحتى الجامعية، يكون المنزل هو المكان الذي يستقرين فيه”.
ويتابع “ولهذا توجه إعلانات الفوركس إليهن، لاستغلال رغبتهن في الاستقلال المادي، ومحاولتهن تعويض حرمانهن من النشاط الاقتصادي خارج أسوار المنازل وواجباته”.
وفي مثال على ذلك تحدثت نور العلي عن اعتقادها بأنها ستنتقل من ربة بيت لا تحمل سوى شهادة الثانوية إلى واحدة من سيدات المال والأعمال وتحقق الربح السريع من خلال دخولها سوق “الفوركس” بعدما أقنعتها صديقتها المقرّبة بذلك، مطلع عام 2021.
وتروي العلي (20 عامًا) من بغداد كيف أن صديقتها عبّرت لها عن رغبتها في إيجاد فرصة عمل عبر الإنترنت لتحظى باستقلالية مالية، لا سيما أن والدها لا يسمح لها بالخروج من المنزل، فاقترحت عليها صديقتها التداول في العملات بمساعدة شقيق لها، قالت إنه خبير في هذا المجال.
ومن أجل بدء خطوتها الأولى نحو تحقيق حلم الثراء، استدانت نور 300 دولار من ابنة عمها، وأرسلتها مع صديقتها إلى شقيقها الذي فتح لها حسابًا في واحدة من المنصات وتولّى هو عملية التداول محلها وخلال فترة وجيزة، أخبرها بأنها حققت ربحًا بلغ 700 دولار.
وأكد لاحقًا لها أنها حصلت على 200 دولار إضافية، فأخذتها الحماسة وارتفع سقف آمالها، خصوصًا عندما عرفت منه أن رأس مالها أصبح 900 دولار لكن لم يمض طويلًا حتّى أعلمها بالأخبار السيئة، فقد تلقّت خسارة مفاجئة لكل مالها، على حد قوله.
وعلقت العلي على ماحصل لها بالقول إنها لم تتمكن من إعادة المبلغ الذي استدانته من ابنة عمها.
وأضافت بخيبة بعدما خسرت كل شيء دفعةً واحدة أنها أدركت أن “التداول بالعملات في الإنترنت يتطلب خبرة ودراية والكثير من الممارسة، وأن من المهم أن يقوم المرء بذلك بنفسه “لكن بحذر شديد”.
وقد لا تبدو خسارة نور في مجال التداول المالي الإلكتروني فادحة، قياسًا بآخرين تكبّدوا خسائر مالية كبيرة إلا أن ما حدث لها، سيناريو يكاد يكون مشابهًا للكثير من ضحايا هذا السوق المتنامي في العراقي، وفقًا لمتعاملين بالمجال المالي يعدون الأمر برمته مغامرة وأن لا شيء مضمون في نطاق التعامل بالمال سواءًا كان نقديًا أم مشفّرًا.
ويشهد العراق – وفقًا لاستطلاع رأي نفّذته مؤسسة “عراق المستقبل” في 2019 – تزايدًا في أعداد المستثمرين العراقيين الذين يعتمدون على وسطاء أجانب يتواجدون خارج البلاد، أو من خلال بعض شركات الوساطة التي تعمل بنحو غير قانوني حاليًا داخل العراق، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الإعلانات التجارية سواء التي توزع داخل مرافق عامة أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
وتتوقع المؤسسة أن يبلغ حجم الطلب على الاستثمارات في سوق فوركس أكثر من 94 مليون دولار سنويًا وبنسبة نمو سنوية في حجم التعاملات 9.8 بالمائة وبوضع نسبة النمو السكاني في العراق والبالغة أكثر من 2.8 بالمائة سنويًا، في الاعتبار، فإن حجم التعاملات السنوية يمكن أن يصل إلى 130 مليون دولار خلال السنوات العشرة القادمة وسط مخاوف من وقوع المزيد من الضحايا لمن يستغل هذه التجارة نتيجة القوانين والإجراءات الضعيفة في العراق.