تراجع حكومي عن قرار إغلاق مخيمات النزوح بعد فشل إعادة نازحي ناحية يثرب إلى منازلهم
الميليشيات الولائية تكرس واقعًا جديدًا على الأرض بدوافع طائفية تحكم بموجبها قبضتها الأمنية على المناطق منزوعة السكان لاسيما ناحية يثرب التي يعيش سكانها النازحون ظروفًا قاهرة جراء الفشل الحكومي في التعامل مع قضيتهم.
صلاح الدين – الرافدين
كشف تراجع حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني عن تنفيذ قرار إغلاق مخيمات النازحين في العراق نهائيًا كما كان مخطط له مطلع شهر آب الجاري عن حجم المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها به بعد تعذر إعادة النازحين إلى مناطقهم المستباحة من قبل الميليشيات.
وربطت حكومة السوداني تأجيل عملية التنفيذ بـ “العمل لتهيئة الظروف المناسبة لعودة المهجّرين إلى مناطقهم الأصلية” في اعتراف ضمني بعدم توفر تلك الظروف التي تشمل الخدمات والأمن بعد أن كانت تتجاهل عن عمد دعوات حقوقية و إنسانية بالتراجع عن قرار إغلاق المخيمات دون تهيئة الظروف الملاءمة لعودة السكان وفي مقدمتها إخراج الميليشيات وما ترتب على وجودها من ممارسات طائفية.
وكانت الحكومة قد شرعت بالفعل في إغلاق عدد من المخيمات نهائيًا، من بينها مخيم آشتي في محافظة السليمانية، بحسب ما أعلنت وزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق جابرو في الحادي عشر من تموز الماضي الأمر الذي فاقم من معاناة سكان المخيم وغالبيتهم من نازحي ناحية يثرب في صلاح الدين التي باتت واحدة من أبرز المناطق منزوعة السكان بعد أن تسبب قرار الإغلاق غير المدروس بمعاناة مركبة لهم.
وتبلغ مساحة ناحية يثرب ذات الطابع الزراعي حوالي 446كم²، وكان عدد سكانها يفوق 75 ألف نسمة قبل النزوح جراء العمليات العسكرية ضد المدن المنكوبة في 2014.
وبعد انقشاع دخان العمليات العسكرية في الناحية في 27 كانون الأول 2014، سيطرت ميليشيات “الحشد الشعبي” على الأرض؛ فمنعت عودة أبناء العشائر في تلك المنطقة بعد اتهامهم بالتعاون مع تنظيم داعش في محاولة لفرض تغيير ديموغرافي وواقع جديد على الأرض.
وعلى الرغم من توقيع ميثاق شرف عشائري برعاية ديوان محافظة صلاح الدين، وإشراف ديوان الوقف السني، يسمح بعودة نازحي ناحية يثرب، مع تعهدهم بعدم إقامة أي دعاوى قضائية ضد الجيش الحكومي و”الحشد الشعبي” عن ضحاياهم وخسائرهم في العاشر من أيار 2016 إلا أن الأمور لم تجر كما خطط لها، نتيجة عدم رضا أطراف عشائرية متنفذة تستعين بسلاح “الحشد الشعبي” وسطوته الأمر الذي حال دون عودة النازحين.
وفي أواخر عام 2017 تمت صفقة أخرى، إذ قام أبناء العشائر التي هجرت بجمع مبلغ تعويضي آخر قدره 4 مليارات دينار لتهدئة الأوضاع، تسمى بـ”الرضوة” لقاء عودتهم إلى مناطقهم.
وعلى الرغم من عدم تورط هؤلاء بأي ذنب أو أي جريمة إلا أنهم قبلوا هذه التسوية العشائرية ودفعت كل عائلة 500 ألف دينار- ما يعادل 380 دولارًا لتهدئة الأوضاع.
وأثمرت هذه الصفقات بعد سنوات عن عودة عدد من سكان الناحية لكن الكثير من العائدين وجدوا بيوتهم مهدمة وحقولهم محروقة، وعليهم أن يبدأوا حياتهم من الصفر، ومن دون أي مساعدات تعويضية، فيما بقي نحو 30 ألفًا آخرين ينتظرون الموافقات الأمنية، التي لم تأت إلى الآن، ويجب أن تسبقها تسويات جديدة.

ويسيطر اللواء 41 من “الحشد الشعبي” وقوامه من ميليشيا العصائب على الملف الأمني في ناحية يثرب، وتمنع نقاط التفتيش التابعة له، عودة أي من السكان النازحين من مناطق عدة، من بينها ما بات يعرف بالمناطق المحرمة في الناحية والتي تضم مناطق “أحباب تل الذهب”، وكذلك المنطقة التي تشكل مقاطعة تعرف باسم “11 كشكرية” وتقع بين بلد والدجيل، فضلًا عن مناطق “قناة 34″، وأغلبها بساتين تعرضت للحرق وبيوت أصحابها للهدم إلى جانب مناطق أخرى وتقدر مساحتها بـ8 آلاف دونم.
ويقول صالح حسن الذي يقع منزله الريفي في قرية البو بهلول، الواقعة ضمن المنطقة المحرمة في ناحية يثرب إن “أهالي قريتنا من أوائل الذين نزحوا ولم يبق أحد في القرية حينها، وبعد دخول الجيش حاولنا الرجوع إلى بيوتنا وأراضينا، لكننا مُنعنا، وتفاجأنا بأن بساتيننا محروقة”.
ويملك حسن 125 دونمًا من الأراضي الزراعية، تقع على حدود “قناة 34” الإروائية في الناحية، ضمنها 24 دونمًا مزروعة بالحمضيات، وكانت أرضه تدر عليه ما يقرب من 50 ألف دولار سنويًا، يجنيها من بيعه محاصيل الحمضيات والحنطة والخضروات الورقية.
ويتحدث مغالبًا دموعه “لكنني أعمل الآن في البناء وولدي عامل نظافة
وأضاف بحسرة “العشائر الشيعية الموالية للميليشيات حرفت مسار القناة الإروائية نحو أراضيها ومنعت المياه عن أراضينا، أشجارنا ماتت وأحرقت وأراضينا أصبحت جرداء، باستثناء تلك التي وضعوا أيديهم عليها”.
واستولت تلك العشائر بحسب رواية حسن على 17 دونمًا من أرضه، وباتت تزرعها وتبيع ما تُنتجه مبينًا أن محاولاته العديدة للوصول إلى أرضه باءت بالفشل بينما لم يستطع الحصول حتى على صورة لمنزله المهدم، على الرغم من تمكنه من رؤيته من بعيد عند آخر نقطة تفتيش يمكنه بلوغها.
ويضيف “بعد لحظات من الصمت “بتنا نخشى السؤال عنها، خوفًا من اتهامنا بالعمل مع داعش وملاحقتنا”.
ولا يستطيع حسن الوصول إلى منطقته إلا بتصريح دخول يتم إصداره مقابل 500 ألف دينار من مراكز الشرطة ونقاط التفتيش.
ويقول متحسرًا في هذا الصدد إننا “لا نملك هذا المبلغ، وتأكدتُ عن طريق أصدقائي الذين عادوا إلى بيوتهم أن العشائر المتحالفة من الحشد الشعبي استولت على جزء من الأراضي، التي مازال الماء يصل إليها، من ضمنها قسم من أرضي”.
ويتهم حسن أفرادًا من تلك العشائر في المنطقة بتجريف بستانه بعد انضمامهم إلى الحشد الشعبي وسيطرتهم على المنطقة، لذا فهم يفعلون ما يشاءون لتحقيق مصالح شخصية، ولا أحد يحاسبهم”.
ووفقًا لشعبة زراعة يثرب، فإن 43183 دونمًا في الناحية كانت مغروسة وتعرضت للحرق والتجريف من أصل 63589 دونمًا صالحة للزراعة، من ضمنها أراض ضمن المناطق المحرمة التي لا يمكن لأحد دخولها، وهي مقاطعة “11 كشكرية” التي أحرقت جميع أراضيها الزراعية وتبلغ مساحتها 4611 دونمًا، ومقاطعة “7 المدورة” التي حرم الدخول إليها وأحرق منها 1105 دونمًا من أصل 2838 دونم.
وجميع تلك الأراضي المحروقة تعود ملكيتها للعرب السنة، وكانت تحوي ما يقرب خمسة ملايين ونصف المليون شجرة، وتنتج سنويًا قرابة 270 ألف طن من مختلف الثمار.

وتحاول الميليشيات ومن يتحالف معها من بعض العشائر وبدوافع طائفية استخدام سيف القضاء وتسليطه على رقاب المهجرين من أبناء المناطق المنكوبة لاسيما المناطق المحرمة في ناحية يثرب.
ويكشف محامٍ في محكمة استئناف صلاح الدين، عن وجود “ما يقربُ من 700 دعوى مرفوعة من قبل مشتكين بحق أفراد من عائلات سنية، يُنتظر البت فيها من قبل المحكمة، وهي تشمل تهمًا بالانتماء إلى داعش أو تنفيذ عمليات إرهابية”.
ويبين المحامي الذي فضل عدم الإشارة إلى اسمه وجود “تهم مشابهة ضد 500 شخص دفعة واحدة في بعض اللوائح”.
وأضاف أن “الفصائل التي سيطرت على استخبارات جنوب صلاح الدين بعد خروج داعش، استخدمت تهمة الإرهاب لما يمكن وصفه بتطهير مناطق محددة للسنة من كامل ساكنيها، وكثيرون لا يجرؤون على الامتثال أمام مكاتب التحقيق خشية التعذيب أو التغييب أو إلصاق التهمة بهم”.
وغادرت العديد من العائلات مخيم “آشتي” في السليمانية، بعدما تركته مكرهةً، وعادت إلى ناحية يثرب، لكن لم يُسمح لها بالعودة إلى قراها السابقة في المنطقة التي تُعرف بالمحرمة، فاضطروا إلى نصب خيمهم خلف ساتر يفصلهم عنها.
ويقول أحد شاغلي تلك المناطق إننا “جلبنا معنا خيمنا من السليمانية، فنحن متأكدون من عدم سماح الحشد الشعبي لنا بدخول مناطقنا، نحن هنا نقارب الـ50 عائلة، يستطيع بعضنا رؤية منزله، لكن من يتجرأ على عبور الساتر الفاصل بين المخيم الجديد والمناطق المحرمة، سيكون هدفاً لبنادقهم”.
ومن بين هؤلاء أحمد.ع (29 عامًا) الذي يسكن في قرية تطل على “قناة 34” الإروائية، وهي من بين القرى المحرمة، وبالرغم من أن والده يملك بستانًا فيها بمساحة 20 دونمًا كانت مزروعة بالعنب، إلا أنه لا يستطيع الوصول إليها.
ويتساءل بحيرة “أين سنذهب الآن، إنها عملية تشريد لا إعادة طوعية، لمجرد إعلان تحقيق نجاحات وهمية.. فليعيدوا إلينا أراضينا لنعود إليها، بهذا القرار ليس أمامنا سوى العودة إلى صلاح الدين خارج يثرب، لنظل مشردين في مكان ما هناك ومواجهة مصيرنا المجهول”.
ويسأل أحمد الذي كانت أسرته تعتمد على المساعدات في كردستان العراق سؤالًا آخرًا “ماذا سأعمل في صلاح الدين، وكيف سأدفع إيجار المنزل، وأؤمن مصاريف العائلة؟”.
وما يجده أحمد آخر الحلول، قام حمزة عادل بتجربته من دون نتيجة مرضية، إذ ترك مخيم “عربت” في السليمانية، وسكن في بيت يعود لأهل زوجته في منطقة الدجيل شمال بغداد في العام 2020، منهيًا بذلك ست سنوات من النزوح، تاركًا خلفه بيته الواقع في المناطق المحرمة في ناحية يثرب.
ووجد حمزة عادل (45 عامًا) صعوبة في العيش تحت سلطة “الحشد الشعبي” ووصف معايشته بالقول إنهم “يتعاملون معنا كإرهابيين، من المتوقع أن يداهموا منزلك في أي لحظة للتفتيش، كما أن فرص العمل شحيحة، ومن ينوي أن يفتتح مشروعاً عليه أن يتقاسم أرباحه؛ إن حقق شيئاً، مع الحشد الشعبي”.
وبسبب ذلك عاد مجددًا إلى السليمانية نهاية العام 2021، واستأجر بيتًا فيها، لأن إدارة المخيم الذي كان فيه من قبل، رفضت استقباله مع عائلته كبيرة العدد، كونها اعتبرته عائدًا، فشطبته من سجلاتها مبينا أنه “يعمل لتدبر تكاليف المعيشة مع الإيجار، وينتظر معجزة تعيده وأسرته إلى يثرب”.
ولا تختلف قصة ميثم وهو موظف حكومي رفض كشف عنوانه الوظيفي الدقيق خوفًا من الملاحقة عن قصة حمزة و أحمد فهو يعيش بعيدًا عن منزله في ناحية يثرب الذي نزح عنه في حزيران 2014.
وكان ميثم (50 عامًا) يسكن في قرية الشهابي في ناحية يثرب قبل أن ينزح مع عائلته إلى السليمانية في كردستان العراق ويستقر فيها.
وبسبب التزامه بوظيفته، عاد ميثم إلى المحافظة بعد استعادتها أواخر سنة 2016، غير أنه فوجئ بالأوضاع غير المؤاتية على الأرض، إذ منع “الحشد الشعبي” المسيطرة على المكان، عودته وآلاف غيره إلى قراهم، فاضطر إلى السكن مع عائلته في قضاء الدجيل التابع كذلك لمحافظة صلاح الدين.
ويقول وهو ينظر شمالًا نحو الأفق الممتد أمامه أنني “أسكن الآن على بعد عشرة كيلومترات عن منزلي الذي لا أستطيع الوصول إليه”.
ويأخذ نفسًا عميقًا، قبل أن يتابع “نحن ندفع ثمن جرائم لم نقترفها، لسنا إرهابيين كي يعاقبونا على هذا النحو، حتى القلة القليلة التي سُمح لها بالعودة، تعيش أوضاعًا مزرية بلا ماء ولا كهرباء”.
ويضيف بنبرة حادة “قناة الري الوحيدة في الناحية التي كانت تسقي أراضينا تم حرف مسارها، لتموت حقولنا، وكأنهم يريدون انتزاع كل جذورنا من هناك”.

وتشير مصادر غير رسمية، إلى أن هنالك ما يربو عن 2800 شخصًا من أهالي صلاح الدين، مغيبون بنحو قسري منذ 2016، قسمٌ منهم من ناحية يثرب، والكثير منهم تم اعتقاله من قبل “الحشد الشعبي” ولم يعد ذووهم يعلمون شيئاً عن مصائرهم.
ومنذ العام 2003، تعد المعاملة التمييزية الممنهجة وما نتج عنها من حملات تطهير طائفي وعرقي أبرز أسباب النزوح في العراق، حيث أصبح مئات الآلاف من العراقيين، الذين وجدوا منازلهم وأراضيهم محتلة من قبل الميليشيات والقوات الحكومية، مشردين في مناطقهم الأصلية إلى جانب ما تسببت به العمليات العسكرية التي شنتها الحكومات المتعاقبة وحلفاؤها بعد العام 2014 من موجات نزوح لملايين العراقيين يُزاد عليهم، الآلاف من النازحين داخليًا في مناطق وسط وجنوب العراق من جراء أزمة المياه المتفاقمة والجفاف الناجم عنها.
وقد أُجبر معظم النازحين داخل العراق على ترك منازلهم بسبب السياسات الطائفية للحكومات المتعاقبة في بغداد، التي استخدمت إزاحة السكان الأصليين كسلاح لمعاقبة وإخضاع أبناء المدن الرافضة للاحتلال، في سبيل القضاء على الجهات المعارضة والمناهضة للنظام السياسي القائم على المحاصصة المجحفة التي فرضها الاحتلال.
ولايقتصر الأمر على ناحية يثرب ففي ناحية “جرف الصخر” (70 كلم جنوب بغداد) التي تتبع لمحافظة بابل، وتقع شمال مدينة كربلاء ، تبدو الأوضاع مشابهة إلى حد ما بعد أن تحولت إلى قاعدة للميليشيات، التي اتهمت سكانها بالإرهاب بغية تبرير ممارستها الطائفية تجاههم.
وناحيتا يثرب وجرف الصخر من أبرز المناطق التي تحتلها الميليشيات وترفض إعادة أهلها إذ تشمل قائمة هذه المناطق عدة محافظات منها مناطق الفارسية وصنيديج والكراغول والمنشئات والمشروع في محافظة بابل.
وتضمنت مناطق محافظة الأنبار مناطق العويسات ومجمع الفوسفات وذراع دجلة ومجمع جديدة عرعر وأجزاء من إبراهيم بن علي فضلًا عن حصيبة الغربية.
وتضم مناطق محافظة صلاح الدين قرى “العوجة وعزيز بلد وسليمان بيك ومكحول والثرثار وجزيرة سامراء وطوزخورماتو إلى جانب القرية العصرية في بيجي.
وضمت قائمة المناطق التي يمنع أهلها من العودة في محافظة التأميم 62 قرية عربية جرفتها قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني إبان العمليات العسكرية في المدن المنكوبة إلى جانب 17 قرية أخرى في حمرين.
ومن بين المناطق في القائمة عدة مناطق في ديالى من بينها “السعدية ومناطق في المقدادية وقرى في العظيم والوقف وشهربان مع بساتينها إلى جانب قرى أخرى شمال شرقي بعقوبة”.
وفي محافظة نينوى تصدرت القرى العربية في سنجار وسنوي وفيشخابور والعائلات العربية في مركز مدينة سنجار قائمة المناطق منزوعة السكان إلى جانب مناطق عين فتحي والكرسي والحصان فضلًا عن نحو 10 قرى عربية في قضاء تلعفر إلى جانب مناطق سايلوات ربيعة والخازر وحسن شام ومخمور”.