أزمة وجودية تكتنف الصحافة العراقية بعد انهيار معاييرها وتراجع قيمها
تحولت صناعة الخطاب في وسائل الاعلام العراقية إلى مجرد مشروع سياسي وطائفي وحزبي، فيما أضحت الصحف القليلة الباقية وعشرات المحطات التلفزيونية إلى مجرد دكاكين إعلامية تقدم الخدمات الصحافية مدفوعة الثمن للحكومات والأحزاب والميليشيات المستحوذة على السلطة.
بغداد- الرافدين
لا تكمن الأزمة الوجودية التي تعاني منها الصحافة العراقية في استحواذ الرقمي وتراجع الورقي، بل أن أزمتها وجودية بعد انهيار معاييرها وتراجع قيمها.
وتحولت صناعة الخطاب في وسائل الاعلام العراقية إلى مجرد مشروع سياسي وطائفي وحزبي، فيما أضحت الصحف القليلة الباقية وعشرات المحطات التلفزيونية إلى مجرد دكاكين إعلامية تقدم الخدمات الصحافية مدفوعة الثمن للحكومات والأحزاب والميليشيات المستحوذة على السلطة.
وتمارس وسائل الإعلام في العراق لا أمانة أخلاقية عندما تخذل جمهورها وهي تتواطؤ مع لصوص الدولة بالتغطية على الفساد الكامن في مفاصل الدولة.
وركز تقرير لوكالة “رويترز” على تراجع الصحافة الورقية في العراق من دون أن يتناول معضلة صناعة الخطاب في العراق الذي يعيش تراجعا مشينا لم يشهده في أسوأ مراحل التاريخ المعاصر للعراق.
ومع اقتراب اليوم من نهايته في النجف، يعود بائع الصحف فاضل علي إلى منزله بخفي حنين إذ لا تزال حقيبة الصحف المطبوعة التي يحملها ويدور بها في أنحاء مدينة الكوفة ممتلئة.
ومع اعتماد صناعة الأخبار بشكل كبير على المحتوى الرقمي والتكنولوجيا المتاحة للجماهير في جميع أنحاء العالم، يواجه بائعو الصحف الذين يعتمد دخلهم بالكامل على الصحافة المطبوعة صعوبات كبيرة ويضطرون إلى اللجوء إلى وسائل مختلفة للدخل.
وأوضح علي أنه في محافظة النجف بجنوب العراق، قبل بضع سنوات فقط، كان نحو 250 شخصا يكسبون رزقهم من بيع الصحف في الشوارع. وقال إن عددهم اليوم صار ثلاثة فقط، هو أحدهم. وأضاف أنهم متمسكون بالمهنة لكنهم يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وقال “كان زمان تباع الجريدة وكان فيها أشياء جميلة. والموبايل دمر الجريدة، دمر جميع الصحف. هذه هي الصحف، ماذا نعمل؟ وتبقى كثير منها (ترجع لا تباع). كنا سابقا 250 شخصا في النجف نبيع الجرائد، حاليا بقينا ثلاثة فقط. أنا في مدينة الكوفة، واثنان في النجف. ماذا نعمل؟ الجريدة لا تُباع عندنا. نضطر نبيعها لأصحاب الزجاج وللمسح ولأصحاب الصبغ. هذه حال الصحف”.
وتراجع الصحافة المطبوعة الحاد واضح للبائعين ودور الطباعة والمستهلكين على حد سواء.
المُعلم المتقاعد محمد العبيدي، بينما يطالع جريدة ويحتسي القهوة بأحد مقاهي بغداد: رغم تطور التكنولوجيا، نحن نجد راحة نفسية في قراءة الجريدة
وقال نوار محي، وهو صاحب مكتبة وناشر، إن السرعة هي العامل المطلوب في تحديث الأخبار وإن ذلك صار مُتاحا خلال دقائق في جميع أنحاء العالم، مما يلغي الحاجة إلى الانتظار حتى نشر الصحيفة في صباح اليوم التالي.
وأضاف “أنا كمتابع للأخبار لمختلف تفاصيلها وبمختلف أشكالها، لن أنتظر صحيفة لتصدر في اليوم الثاني حتى أعرف ما يعرفه البقية خلال دقائق وفي وقتها. المعلومة اليوم موجودة، تنتشر انتشارا نافذا، في الهشيم كما يقال، خلال لحظات في جميع أنحاء العالم. لذلك هذه أهم صفة أصبحت اليوم مرغوبة في العالم الحديث، صفة التحديث السريع للمعلومات. لذلك فقدت الصحيفة الورقية بريقها”.
كرم نعمة: تخسر الحقيقة وهي تخوض النزال بسوق تجارة الأفكار في العراق المخطوف لأن كومبارس الصحافة يقدمون الخدمات الصحافية مدفوعة الأجر للحكومة ويكتفون بمجرد لعب دور الهامش لأخبارها بعرض فسادها وتغولها بوصفه منجزات
ولكن مع اندفاع العصر الرقمي نحو الذكاء الاصطناعي وانتشار الخوف من المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا يزال بعض الناس ينظرون إلى الصحافة المطبوعة على أنها وسيلة للراحة النفسية.
ويقول المُعلم المتقاعد محمد العبيدي، بينما يطالع جريدة ويحتسي القهوة بأحد مقاهي بغداد، “رغم تطور التكنولوجيا، نحن نجد راحة في قراءة الجريدة. راحة نفسية. لأنه نحن متعلقين بالماضي أكثر مما متعلقين بالحاضر هذا هو السبب”.
وقال رفعت عبد الرزاق، وهو كاتب في جريدة المدى، “بلا شك أن التراجع الكبير بموضوع الصحافة الورقية كان تراجعا مذهلا، حتى أن كثيرا من الصحف، ليس في العراق وإنما في العالم العربي وفي العالم، قد أغلقت أبوابها وحلت الهيئة الإدارية وما إلى ذلك في هذه الصحف. وبعض الصحف تحولت إلكترونيا بشكل تام”.
وأضاف “الصحافة الورقية، كما قلت، في سنوات قليلة سوف تنتهي تماما. ولكن بعض الصحف حافظت على تقاليدها، وحافظت على هيبة جريدتها في استمرارها لحد هذا اليوم. وهناك عدد من الصحف الرئيسية في بغداد قد استمرت بالرغم من الإمكانيات الضعيفة وتراجع قضية الإعلانات التي كانت الممول الرئيسي للصحف غير الحكومية. الصحافة الورقية تقهقرت كثيرا، ولكنها باقية تقاوم الزمن ولها من القراء الكثيرين”.
لكن الأزمة الحقيقية ليس في سطوة الصحافة الرقمية على الورقية وهي أزمة عالمية، بل بصناعية نوعية الخطاب في الصحف ووسائل الاعلام العراقية، كما يقول الكاتب العراقي كرم نعمة مؤلف كتاب “السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي”.
وأوضح نعمة “إن معضلة الاعلام في العراق هو غياب جوهر الصحافة ودرسها الأول الذي يجهله الغالبية العظمى ممن يتصدرون المشهد الإعلامي في العراق”.
وتساءل كرم نعمة المهتم بالأزمة الوجودية التي تعاني منها الصحافة في العراق والعالم “كيف يمكن إنقاذ الإعلام العراقي”.

وأوضح “الصحافي لا يقول فعلت، بل بكل تواضع يقول سمعت وشاهدت! أما عندما يقدم الخدمات الصحافية مدفوعة الأجر ويعرضها بوصفها اجابات مطلوبة ويدير ظهره للأفكار المبتكرة والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه فإنه سيجعل من الفضاء الإعلامي مقبرة لنفسه كما يحدث مع قطاع طرق قنوات الميليشيات والأحزاب الطائفية في العراق”.
وأضاف لا يمكن إنقاذ الإعلام من دون الوصول بالعراق إلى المعادلة الصفرية، لأن العملية السياسية بنيت على فرضية غير وطنية، وذلك ما ترتب عليه إعلام غير مخلص لجوهر الصحافة، وتعليم وثقافة وفن.
وقال “ذلك لا يعني أن نبقى مكتوفي الأيادي بذريعة أننا لا نستطيع عمل شيء، لا أبدًا، علينا أن نصنع خطابنا البديل كما يحدث الآن في مساحات وسائل التواصل، ومثالنا شباب ثورة تشرين، جيل لم يمنح الفرصة الطبيعية لحياة طبيعية رفع أحد أهم وأعمق الشعارات (نريد وطنًا) وغير كل الأفكار والتوقعات أن الشخصية العراقية خاملة لأحزاب وميليشيات طائفية”.
ويرى الخبير القانوني علي البياتي أن العراق “يشهد انتكاسة في ملف الحريات، ويظهر ذلك من خلال ملاحقة واستهداف الناشطين والإعلاميين وأصحاب الرأي”.
وأشار البياتي، إلى أن الطبقة السياسية “تحاول أن تجير القضاء لصالحها، وأن تورطه في انتهاكات كثيرة، ومنها استهداف الصحافيين والناشطين في كشف ملفات الفساد”.
