الجفاف يدخل مدن عراقية في دائرة الخطر ويفاقم الهجرة الداخلية
خبراء بيئيون يجمعون على أن العراق لا يملك أي استراتيجيات بعيدة المدى للحد من تبعات التغيرات المناخية، والخطط الحكومية الحالية عقيمة وستهدد مصير الزراعة والثروة الحيوانية.
ذي قار – الرافدين
تتصاعد التحذيرات الرسمية والشعبية بشأن مخاطر جفاف في العديد من محافظات العراق، وما يترتب على ذلك من هجرة سكانها واندثار النظام البيئي والأحيائي في تلك المناطق نتيجة للجفاف وتراجع الإطلاقات المائية إلى مستويات غير مسبوقة.
وعلى مدى السنوات الماضية، واجه العراق موجات جفاف حادة نتيجة لانخفاض معدل هطول الأمطار، بالإضافة إلى تأثير السياسات المائية التي تبنتها دول الجوار، والتي أدت إلى تقليل تدفق حصص العراق من المياه إلى أنهاره وأراضيه.
واشتكى عدد من المزارعين في محافظة النجف من “تفاقم أزمة شحة المياه مما جعل مزروعاتهم عرضة للهلاك بسبب الجفاف وعدم تمكنهم من سقيها في المواعيد المحددة”.
وطالب المزارعون “حكومة السوداني باتخاذ إجراءات عاجلة وتوفير حصص مائية أكبر، مؤكدين أن الصمت الحكومي سيؤدي إلى تكبدهم خسائر مادية فادحة”.

وانخفضت مساحة الأراضي الزراعية المسقية بمياه الأنهار في العراق بنسبة 60 بالمائة، نتيجة تقليص المساحات المزروعة من 6 ملايين دونم إلى حوالي مليون ونصف المليون دونم فقط.
وأكدت وزارة الزراعة أن “العراق فقد ما يقارب 60 بالمائة من الأراضي الزراعية المسقية بمياه الأنهار نتيجة الجفاف وشح مياه الأنهار، والتغيرات المناخية الصعبة التي ضربت البلاد.”
وأوضح المتحدث الرسمي للوزارة محمد الخزاعي في تصريح صحفي أن “هذه الظروف اضطرت البلاد إلى تقليص مساحة خطتها الزراعية الشتوية الخاصة بمحصول القمح إلى مليون ونصف المليون دونم فقط”.
وفي سياق متصل أكد مجلس محافظة ذي قار، دخول 10 مناطق في المحافظة ضمن الدائرة الحمراء بسبب الجفاف، فيما أشار إلى أن الوضع في هذه المناطق صعب للغاية.
وقال الناطق باسم المجلس، ياس الخفاجي إن “ملف المياه ضمن مناطق جنوب ذي قار مثير للقلق، خاصة مع انحسار إمدادات المياه بمستويات عالية خاصة في مناطق قضاء سيد دخيل وقراها وصولًا إلى الدواية والفهود والإصلاح والجبايش والمنار وسوق الشيوخ”.
وأضاف أن “شح المياه تسبب بنفوق الثروة الحيوانية والأسماك وتصاعد نسبة الهجرة من الأرياف بنسبة تصل إلى 25 بالمائة، موضحًا بأن 10 مناطق دخلت فعليًا الدائرة الحمراء أي مرحلة الخطر الفعلي.
وأشار إلى أن الوضع صعب وأن أزمة المياه تتفاقم مع تبعاتها القاسية على المناطق الزراعية، في انتظار حلول وزارة الموارد المائية المعنيّة بملف المياه.
وأعلن مدير مكتب حقوق الإنسان في محافظة ذي قار داخل المشرفاوي عن تسجيل نزوح أكثر من 9 آلاف عائلة بسبب تداعيات أزمة الجفاف حسب إحصائيات دائرة الهجرة والمهجرين في المحافظة.
وقال إن “هذه العائلات فقدت مصدر رزقها ونفوق أعداد كبيرة من الثروة الحيوانية وتناقص كبير في حجم الثروة السمكية الأمر الذي دعاهم إلى النزوح إلى المدن والمحافظات المجاورة بحثا عن لقمة العيش”.

وأضاف أن “هذه الأعداد اضطرت إلى ممارسة مهن تختلف عن مهنتها الأصلية وأحدثت حالة من التغير الديمغرافي لطبيعة مناطق الأهوار والتي تعتبر من المناطق السياحية المهمة مع وجود رغبة حكومية جدية برفع نسبة الإطلاقات المائية من خلال الاتفاق مع دول المنبع”.
وشدد على أن إدارة المحافظة على تواصل مع المحافظات الأخرى لتحديد الحصص المائية والتي تتطلب بذل جهود كبير للحد من تأثيرات هذه الأزمة.
وقال عضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، ثائر مخيف، إن “محافظة ميسان هي واحدة من المحافظات التي وقع عليها الحيف جراء شح المياه بعد قطع إيران الروافد المغذية”.
وأضاف أنه “بسبب وجود مسطحات مائية يعتمد عليها عدد كبير من السكان من خلال صيد الأسماك والطيور ينتج عنه إيذاءً مباشرًا لهؤلاء”.
وبين أن “إيران قطعت 42 مجرى مياه كانت تغذي مياه الأهوار حيث أقامت عليها المشاريع والسدود الإروائية، ونتيجة لذلك تأثرت محافظة ميسان وتحديدًا منطقة الخير والقنوات المتفرعة من نهر الخير كما حصل نفوق للأسماك في هور الحويزة”.
من جانبها حذرت لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، من كارثة بيئية تهدد الأهوار بسبب قلة التخصيصات المائية والإهمال الحكومي الممنهج الذي تتعرض له منذ سنوات.

وقال عضو اللجنة، رفيق الصالحي، إن “الحكومة لم تضع خطة لدعم الأهوار العراقية على الرغم من إدراجها ضمن لائحة التراث العالمي، مضيفًا أن الثروة السمكية تتعرض للهلاك بسبب انخفاض مناسيب المياه”.
وأكد على أن عدم وجود جدية من قبل الحكومة في ملف التفاوض مع دول الجوار بشأن أزمة المياه، مبينًا أن ما يحدث في الأهوار اليوم هو قتل للثروة الحيوانية، مما سيتسبب في كارثة إنسانية تتمثل بنزوح ما تبقى من عائلات.
وحذر الخبير المائي جاسم الأسدي من عدم الجدية في معالجة واقع أن منطقة الأهوار تخوض تحدي مرحلة جفاف حقيقية ناجمة عن انخفاض شديد في مناسيب نهر الفرات المغذي الرئيسي للمنطقة بالمياه.
وأضاف أن “مناسيب نهر الفرات وصلت إلى نحو متر واحد و10 سنتيمترات تقريبًا في نيسان الماضي، وهي مناسيب منخفضة، ومع ذلك لدينا أقصى انخفاض اليوم وبواقع 65 سنتيمتراً فقط، ولنا أن نتخيل حجم المشكلة المائية وتأثيرها الكارثي على منطقة الأهوار”.
وأشار الأسدي الذي سبق وأن تعرض للاختطاف من قبل الميليشيات لانتقاد الوضع البيئي الراهن في محافظة ذي قار، إلى أن تراجع المناسيب نجم عنه تراجع كبير في النظام الإحيائي والبيئي يهدد بهجرة ونزوح آلاف الأسر من مربي الجاموس والمعتمدين على صيد الأسماك التي نفق كثير منها خلال هذا العام.
ولفت إلى أنه في حال عدم نزول أمطار مبكرة هذا العام فإن الجفاف سيلقي بظلاله القاتمة على كل منطقة الأهوار، وربما يؤدي إلى خلوها من السكان في المستقبل القريب”.
وفي سياق متصل، حذر المختص في الشأن البيئي عمار السلامي من “واقع بيئي خطر يهدد مناطق كثيرة في البلاد، من بينها ذي قار، بسبب شح المياه”.
وبين السلامي أنّ “نسب المياه التي تراجعت بصورة كبيرة في عدد من الأنهر الرئيسة والفرعية، رفع نسب التلوّث فيها، إذ إن المياه المتبقية هي مياه راكدة تخرج من الأرض وهي مالحة غير صالحة للاستهلاك البشري ولا الحيواني”.
وتابع السلامي أن “الأنهر في المناطق الزراعية والسكنية بمعظمها تحوّلت إلى مكبّات نفايات، وقد تسبّب ذلك في نفوق حيوانات كثيرة كانت توفر لقمة عيش العائلات الريفية. وهذا ما دفع تلك العائلات تلقائيًا إلى الهجرة من مناطقها، بعدما يئست من الحلول الحكومية”.

وشدد على “ضرورة سعي الحكومة إلى وضع حلول للحفاظ على البيئة والثروة العراقية، من خلال حصول العراق على حصصه المائية من دول الجوار”.
من جهته يرى الخبير في مجالي الزراعة والمياه، عادل المختار أن “الجفاف كان السبب في نفوق أكثر من 7000 جاموس في الصيف الماضي، وأدى أيضاً إلى خفض رقعة الأراضي المزروعة إلى مليون ونصف المليون دونم فقط، بعد أن كانت أكثر من 12 مليون دونم”.
وأضاف أن “انخفاض مناسيب المياه كان السبب أيضاً في ارتفاع التلوث إلى مستويات خطيرة، سيما في محافظات العراق الجنوبية، ما سيفاقم من مشكلة البطالة، ويقلل كميات مياه الشرب، كما سيجبر المزيد من الفلاحين على ترك مناطقهم”.
ولفت إلى أن “العراق لا يملك أي استراتيجيات بعيدة المدى للحد من تبعات التغيرات المناخية، والخطط الحكومية الحالية عقيمة وستهدد مصير الزراعة والثروة الحيوانية”.
وأكد على أن الحل الوحيد أمام العراق هو ترشيد استهلاك المياه، والاعتماد على خطط مائية بديلة تتلاءم مع التغييرات المناخية، فضلاً عن إعادة النظر بالسياسة الزراعية الحالية.
ويرى الصحفي العراقي عبد اللطيف الهجول في مقال له تحت عنوان “التصحر في العراق تحدٍ بيئي متنامٍ” أن “العراق قد يكون على موعد مع حرب جديدة، لكنها هذه المرة مع الجفاف؛ فالخبراء يحذرون من آثار كبيرة له على القطاع الزراعي، فضلًا عن مياه الشرب، وكذلك جوف الأرض، ما يعني مخاطر تهدد أساسيات الحياة، مع ارتفاع نسبة الملوحة بشكل ملحوظ في مناطق جنوبي العراق”.
وأضاف أن “وزارة الموارد المائية مطالبة بالتحرك الجدي؛ لإيجاد حلول لذلك قبل فوات الأوان، وفتح قنوات اتصال جدية مع الجانبين التركي والإيراني تحت رعاية الأمم المتحدة، لتكون ضامنة لأي اتفاق يحدث مستقبلًا”.
وشدد على أن العراق مقبل على كارثة بيئية إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، وهذا سيكون بمثابة كارثة إنسانية لبلاد ما بين النهرين، وبالتالي هجرة الريف إلى المدينة في ظل عدم نجاح الحلول الحالية.
وأكد على أن من الأفضل للسلطات التوجه إلى استراتيجية وطنية جديدة، تعمل على ترشيد استخدام المياه، ورسم سياسة ري جديدة للأراضي الزراعية، وتحديد حصص المحافظات، والعمل بجدية على وقف التجاوزات الموجودة في بعضها.
