أخبار الرافدين
طلعت رميح

حدود المأزق الأمريكي مع إيران!

تظل تجربة الولايات المتحدة في توظيف إيران –حكما ومقدرات دولة- في داخل خطط استراتيجيتها العليا، واحدة من أهم وأعقد حالات التوظيف الاستراتيجي التي شهدها العالم.
فالولايات المتحدة تريد لإيران أن تكون قوية حتى تنفذ وظيفتها الاستراتيجية، وهي من منحتها كل الدعم لاحتلال وتفكيك وتخريب ثلاث دول عربية. وفي ذلك انتقلت الولايات المتحدة من توظيف حكم الشاه في تخويف دول الخليج- لتظل بحاجة للدعم الأمريكي- إلى توظيف إيران كقوة احتلال. وهنا بدأ المأزق الأمريكي.
في تجربة توظيف نظام الشاه كان التوظيف يجري دون معاناة أمريكية. كان يكفي عقد صفقات السلاح وفتح خطوط الحركة أمام النظام ليظهر بمظهر القوي. وكان المطلوب من النظام في حدود تدريبات عسكرية هنا أو تصريح هناك، ليحقق المطلوب منه.
لكن طبيعة نظام ولاية الفقيه القائم على تلك الحالة من الغوغائية والشعبوية –فضلا عن الطائفية- والشعارات التي رفعها خاصة شعار بناء إمبراطورية فارسية، وطبيعة المهام التي أنيطت به، إذ تحول دوره من التخويف إلى التغلغل في المجتمعات الأخرى وبناء الميليشيات وإيصال السلاح والدخول في أعمال قتل وقتال والقيام بحالات تغيير سكاني، قد جعلت من عملية توظيفه حاله معقدة للغاية.
فحين تربى تمساح وتريد له أن يكون شرسا في التهام الضحايا، يكون من الصعب عليك أن تجعله يميز بين هذا وذاك أو أن يكون مدركا لحدود التعامل مع الشراسة التي غرستها أنت فيه.
وإذ في الظواهر البشرية، لا يكون توظيف دولة كاملة هي حالة يمكن تحريكها طوال الوقت بالريموت كنترول، فالولايات المتحدة تجد نفسها بين مدة وأخرى أمام ضرورة ترويض هذا التمساح الذي فتحت أمامه كل الأبواب وأزالت من أمام حركته كل المحاذير.
تجد الولايات المتحدة نفسها طوال الوقت في حالة انشغال باعتماد أنماط معقدة من التكتيكات لإبقاء الحكم في إيران ضمن حدود ما خططت له ورتبته الولايات المتحدة. وهي خطط قد تتخطى حدود عقل بعض المنفذين أنفسهم في بعض الحالات. وفي توظيف حالة إيران “الثورجية” والشعبوية والمنفلتة من عقالها، في تجارب تفكيك الدول العربية الإسلامية، يظهر من حين وآخر، من يتصور أن ما يسمعه حقيقي، سواء شعارات الموت لأمريكا والموت لإسرائيل أو شعارات تحرير القدس أو أن إيران تدعو لوحدة العالم الإسلامي. دون إدراك أن كل تلك الشعارات هي للتغطية على الدور الاستراتيجي الإيراني داخل الاستراتيجية العليا الأمريكية التي توظف إيران كمشروع فرعي لبقاء وتطور خطط تمكين الكيان الصهيوني، ولإجهاض قدرات ومقدرات الدول الإسلامية ومشروعها الحضاري.
هنا تتدخل الولايات المتحدة لإعادة ضبط البوصلة، ولاستمرار توظيف القدرات والطاقات الإيرانية، وفي ذلك قد يكفي في بعض الأحيان إحداث اهتزازات في المجتمع أو إثارة الارتباك بين مكونات النظام أو تخويف المجتمع أو الإطاحة بمن يخرج عن الخطوط المرسومة.
وكما هو معلوم فإن تلك العمليات تجرى وفق آليات معقدة وبأساليب أقلها ظاهرا وأكثرها غير معلن، وإلا أصبح صعبا توظيف إيران لأداء دورها.
وهناك أمر مهم آخر، وهو أن الولايات المتحدة ذاتها لا بد لها أن تظهر بمظهر العداء لإيران، إذ إن ظهورها بمظهر الداعم لها يكشف الغطاء أمام المستهدفين. وقد شاهدنا نماذج لا تعد ولا تحصى حرصت فيها الولايات المتحدة على أن تبدو في موضع العداء الشكلي مع تقديم أقصى درجات الدعم الاستراتيجي للمتعاونين مع إيران وبالدقة لميلشياتها.
فالولايات المتحدة التي كان الهتاف يعلو بموتها في طهران، هي ذاتها من كانت تدرب وتسلح الميليشيات الإيرانية ومن كانت توفر لها الغطاء الجوي خلال ارتكاب جرائم الإبادة والتطهير الطائفي والعرقي في العراق. والولايات المتحدة هي من لعبت أخطر الأدوار في دعم جماعة الحوثي ووصل الأمر عدة مرات حد قصف قوات الشرعية اليمنية حين كانت قاب قوسين أو أدنى من تحرير صنعاء.
والمعضلة الكبرى التي تواجهها الولايات المتحدة الآن، هو القدرة على إدارة مشروعين استراتيجيين في نفس الإقليم.
مشروعان يظهر كل منهما في عداء مع الآخر، وكيفية ضبط منسوب دور كل منهما، إذ المشروع الإيراني هو مشروع فرعي فيما المشروع الصهيوني هو المشروع الإستراتيجي الأشمل، فهي إذ ترعى المشروع الإيراني وتدعمه، هي ذاتها من ترعى المشروع الصهيوني. وإذ الأمر واضح على صعيد “الطرف العدو” لكلا المشروعين، وهو السُنة، فالمعضلة هي في إدارة مشروعين في بقعة جغرافية واحده، كل منهم له شعارات وأساليب مختلفة.
وهذا هو جوهر المأزق الراهن للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى